* الرياض- ميرغني معتصم: يتوجه الناخبون البريطانيون اليوم الخميس للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات العامة، في ظل نسيج سياسي بالغ التعقيد لجهة حزب العمال الذي يطمح لدخول التاريخ من أوسع بواباته ال(فيكتورية) عبر الفوز بفترة ثالثة متوالية، رغم ما يكتنف هذا الفوز من مناهضة عارمة يعتلي قائمة بنودها، الحرب العراقية، ومايلصق برئيس الوزراء توني بلير من تهم الكذب على شعبه، ثم تداعيات المحاولة على إبقاء أوراق الحرب هذه، وما ترتب عليه من مآخذ تجاوزت حد الحملات الانتخابية، فأتت المحصلة شبه عكسية قد تصيب الأغلبية العمالية البرلمانية في مقتل، إن سلمنا جدلاً ان اعتلى العماليون سدة الحكم لفترة ثالثة تظل غير مسبوقة. إن الركون إلى فكرة أن يفوز بلير، هي ضرب من الحمالة المجسيّة لثقة الناخبين به، وبالتالي منجز الأداء خلال الثماني سنوات الماضية. إذن, هذه المعركة الانتخابية التي بدأت رحاها اليوم، تأخذ طابع اقتراع بالثقة أكثر منها انتخابات عامة تشترك في ساحتها الأحزاب الرئيسة الأخرى. فالأمر يتمحور أو تحور أصلاً في عملية صراع متداول منذ أن أفصحت الحقائق عن عدم وجود أسلحة دمار شامل بالعراق، قد يفضي بلير إلى تقاعد يعتقد البعض أن أوانه قد حان بعد أن صار -أي بلير- عبئاً أكثر منه رصيداً متواضعاً. بيد أن بلير السياسي الذي أكسبته مزالق السياسة البريطانية حنكة ودهاء تغلفهما ما يمتلكه من ملكات خطابية بارعة، فضلاً عن المنجز الملموس، جعلت منه الرقم الذي لايمكن تجاوزه حتى لجهة خصومه الذين يعترفون بالتفوق البريطاني على أصعدة الاقتصاد والخدمات العامة والنظام التعليمي، في الساحة الأوروبية، رغم أن بلير يبقى صاحب السجل الأكثر ثراءً بالأعداء وخسران الحلفاء داخل حزبه ومجلس الوزراء بسبب الحرب العراقية. إن توخينا صدقاً، فإن الناخب البريطاني أبعد ما يكون عن التأثيرية الانطباعية الهشّة، فالثبات على العادة جزء جوهري من المكون النفسي بفعل الموروث الاجتماعي، وإن اهترأ جزئياً في العقود الأخيرة، ولكن تظل عملية الإقناع والاقتناع عصيتين على الذهنية العامة المتأثرة جزئيا بما تفرزه تفاعلات (الإنتلجنسيا) التي تمتلك ناصية التحولات الثقافية والاجتماعية داخل النسيج البريطاني في عموميته، لذا يظل المحافظ محافظاً والعمالي عمالياً عدا تلك الاستثناءات غير المؤثرة التي أفرزها وضع التركيبة الإثنية المتحولة بإيقاع متسارع تكبحه القوانين والنفور الاجتماعي المستتر. في اليومين السابقين عمد بلير وطاقمه الانتخابي إلى التمترس بالازدهار الاقتصادي درءاً لهيمنة الرأي المناوئ، حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تقلص في الأغلبية البرلمانية التي تتيح لحزبه -في حالة فوزه- إطلاق يده في توجيهية القرار السياسي دون عوائق تذكر، وقد صدقت التوقعات أن تقارباً استراتيجياً مرحلياً يطرأ على علاقة بلير بوزير ماليته اللامع جوردون براون، بعد القطيعة المواربة، ومن ثم تصريح الأول إقصاء الثاني عند فوزه. ويبدو واضحاً أن اللقاء التلفازي الذي جمع رئيس الوزراء بوزير خزانته، قد أذاب جليد العلاقة وإن كان العالمون ببواطن الشأن في دوانينج ستريت، يعزونه كحالة التفافية لوضع حالة رتاجية تغيّب المأزق العراقي عن هاجس الناخب. وتأتي قضية مقتل الجندي البريطاني في معارك العراق الاثنين الماضي لتذكي الشعور المناهض ثم المنحى الدبلوماسي الذي عالج به بلير الأمر قائلاً: إن الحدث يؤكد العمل غير المعتاد، والتضحية التي تقدمها القوات المسلحة البريطانية في العراق. ولكن هل يجدي تصريح اللحظات الحاسمة في تكريس الهامش البسيط للتفوق العمالي على المحافظين، إذ أظهر آخر استطلاع للرأي نشرته صحيفة (تايمز) أن حزب العمال سيحصل على 42% من الأصوات مقابل 29% للمحافظين فيما سيحصد الأحرار الديمقراطيون 21%. وعلى ضوء هذا المعطى، وفوز العمال المتعاقب بأغلبيات كبيرة، ومن ثم هيمنته على صناعة القرار السياسي لثماني سنوات خلت تجعل من فوزه بأغلبية ضئيلة هذه المرة، صفعة مؤلمة لبلير الذي نجح في تجاوز موجات مناوئة حزبية وشعبية. وعلى النقيض لم يفلح حزب المحافظين المعارض بزعامة مايكل هاوارد، حتى صبيحة الانتخابات من التوظيف الذكي لمأزق حزب العمال المتلاحقة التي كان يتعين استثمارها وفق خطط مدروسة ومنهجية تعرف من أين تضرب على أكثر الأوتار حساسية لدى الناخب، فمجرد الدعوة لإسقاط العمال على خلفية الحرب والكذب، لن تعمل منفردة كمعول لإقصاء بلير عن سدة الحكم. ويبدو أن زعيمة الحزب الأسبق مارجريت تاتشر، قد أحسنت قراءة المشهد، وأعلنت أنها سوف تغادر البلاد إن نجح العماليون بالفوز فترة ثالثة، وفي ذات الوقت لم تعمد إلى تفسير العجز المحافظي أمام العمال، ولاسيما وهي تتقن المناورات الانتخابية وفك طلاسم الخصم. وعلى صعيد حزب الأحرار الديمقراطيين تظل المعادلات أكثر صعوبة، إذ ليس من السهل في بريطانيا التي يهيمن على الحكم فيها حزبان قويان، فضلاً عن نهج انتخابي يقوم ويرتكز على دورة واحدة، أن يعتلي سدة الحكم حزب ثالث، وتظل كافة مساعي الزعيم تشارلس كينيدي وحزبه ضرباً من البقاء في الذاكرة وتجنب غياهب النسيان، رغم معارضته للحرب على العراق واتفاقه مع الرأي العام في هذا المنحى. وقد لخص بلير موقف هذا الحزب في لقاء انتخابي عقد الأسبوع المنصرم، في أنه لن تكون هناك حكومة للأحرار الديمقراطيين، بل يمكن أن تكون هناك أصوات للأحرار الديمقراطيين تسمح للمحافظين بالفوز.
|