تلك العروس الخجولة المفعمة بالأخيلة الرومانسية المتأججة بالفضول المعرفي والمشاعر المشبوبة حتى تكاد تشتعل وإن لم تمسسها نار. تلك المرأة الحبلى بأجنة الأجيال وحدها تنعم بنبل أوجاع الحمل وتنثني في كبرياء على نشوتها حين تمزق لحمها الطري بهجة آلام المخاض القاتلة ساعة الولادة. تلك الأم كانت في عنفوان الشباب تحمل الكون على كفها، تمتشق تحت ثوبها البيتي البسيط سيوفاً مسنونة وورداً رقيقاً من طاقات كونية خلاقة. تحيك من الحلكة أحلاماً قزحية، تسهر إلى ما بعد أن ينام آخر مصباح في بيوت الحي والأحياء المجاورة. تقوم في الليل عدة مرات لتحصن الصغار بأسماء الله الحسنى، ترد عليهم الغطاء تتأكد من رتج الباب تنفث المعوذات في سرها وتعود لنوم الغزلان والمحاربين والذئاب بعيون نصف مغمضة وقلب مفتوح على مصراعيه. تصحو من النجمة وتدق باب الفجر ليستهل النهار، توقظ العصافير بخرير وضوئها، برفة هدب تحيل الرماد الكالح إلى جمر متوهج، تعجن دقيق الحنطة بأظلافها العاشقة وتخبز في تنور نورها أرغفة نحاسية ضاحكة ورقائق تشف عن حشوة شحنات الحب التي عُبِئت بها على الريق، ولا تنسى في غمرة انشغالها ان تخفي عصارة ارهاقها وكفاحها اليومي وتسكب ابتسامتها عسلاً مصفى من شوائب الشكوى في أواني المائدة وهي تنادي كلاً باسمه إلى وجبة الإفطار. تحلب من السحب مطراً يطارد شظف الصحراء من باب البيت إلى مدخل المدارس. تعلق مشاريعها الشخصية رغباتها الذاتية على حبال الغسيل على أمل أن تظل عرضة للشمس والهواء علها تعود إليها في يوم من الأيام. وتنشغل عنها بكل جوارحها بتنظيف الحجرات، بكي الملابس، بإعداد وجبة الغذاء والعشاء بغثيان وحم حمل جديد. تشك الأعباء اليومية على طرف خاصرتها كما يليق بملكة ترصع تاجها بالياقوت والزمرد والألماس. تعيد ترتيب فوضى الألعاب والملابس والأثاث، تُقمع البامية، تفرم البقدونس والنعناع، تقطع البصل، تخيط وتطرز وتشرف على تدريس الأطفال تعطي مريضهم الدواء، تمسح الدموع والمخاط والتأوهات بقطيفة أصابعها، تستعد للأعياد، توسع فضاء البيت على اتساع رئتها، تفض المشاحنات الصغيرة بأجنحة ضحكتها، تلعق علقم الآلام اليومية بشهد صبرها، تلمع زجاج النوافذ المغبرة بمسام بشرتها فتحول المرايا إلى مشكاة تضيء، ترفع العثرات بإصبعها الصغير وتجر المجرة على طرف كتفها وكأنها ترمي عليها شالاً من ريش النعام. ذلك الرجل المفعم بزينة الشباب يصير أباً يصير لزاماً عليه أن يتخلى عن طيش الشباب. يخفف من السهر خارج المنزل إلى أن ينساه أو يكاد. يصير عليه أن يتعود على حزم أو صرامة الآباء على ما في ذلك من آلام خنق المشاعر العفوية وتضييق الخناق على انطلاقة الشباب. يعمل ليس للذة العمل بالضرورة بل ليعول الأعداد المتزايدة عاماً بعد عام من البنات والأولاد. يشمِّر عن ساعديه اللتين يبرق في سمرتهما زيت طاقات العمر ليأتي باللقمة الحلال. قد يشارك أو لا يشارك في المشاغل اليومية لتربية الأبناء ولكنه يظل مهجوساً بتأمين مستقبلهم بالذود عنهم بالسهر من أجل أن يناموا وبالكفاح المعيشي من أجل أن ينعموا بالسلام. لو قمنا بتجربة لإجراء عملية تصوير فوتوغرافي للصورتين السابقتين فما الذي سيسفر عنه تحميض صور الكلمات. صورة امرأة تقف نخلة شامخة محملة بالعذوق وعراجين الرطب المذهب بأشعة الشمس وصورة رجل يقف كسارية فارعة تتعلق على عليائها الريات والنبال والأوسمة. صورة أمهاتنا وآبائنا وهي تموج بماء الحياة وأكسير الشباب. والملاحظة التي لا بد أن ألفت الانتباه إليها هنا هي أن كلاً من الصورتين السابقتين وإن كانت تعبر عن المنظور السوسيولوجي لعلم الاجتماع عن الصورة التقليدية لتقسيم العمل الأسري وتقاسم الأدوار بين المرأة والرجل كما نظر لها عدد من علماء الاجتماع مثل تالكت بارسونزر على سبيل المثال في تحليله للدور الاجتماعي الذي يلعبه كل من المرأة والرجل في الأسرة. فتختص المرأة بالحيز الداخلي للبيت وينطلق الرجل في الفضاء الخارجي للمجتمع مما قد تغيرت بعض وظائفه في المجتمعات المعاصرة بعد ان لم تعد الأدوار الاجتماعية للمرأة والرجل تخضع لذلك الفصل الحاد في تقسيم العمل خاصة وقد أدى دخول المرأة إلى فضاء الحياة العامة إلى بعض التداخل في الأدوار الأسرية، إلا أن تلك الصور في سياق مقال اليوم هي تعبير عن صورة الأمومة وصورة الأبوة حين يكون الأب والأم في أوج العطاء الأسري والاجتماعي. فماذا يحدث عندما- كما يقول الأديب الكندي روبرت مانش- تمتد يد الزمن إلى تلك الصور. امرأة كلل الوقت رأسها بتاج من الثلج الأبيض تعاني من الوحشة وآلام وهن العظام والاكتئاب أو أوجاع أخرى أشد فداحة، وأب يتجرع مذاق العزلة اللاذع وإن حف بهما (الشغالات) أو احاطتهما مظاهر العز كما في بعض أوضاعنا الاجتماعية. أما إذا لم يتوفر ذلك فقد يكون كل منهما نهشاً لاشكال أخرى من الإهمال الصحي والاجتماعي. صحيح أن المسنين في مجتمعنا لا يزالون يحظون بشكل نسبي - وخاصة مقارنة بمجتمعات أخرى - بالكثير من مظاهر الدفء والاهتمام الأسري وصحيح انني أكبر حالات نادرة ونذرت فيها صبية حياتها لتجلس عند ركبة أمها تتساقى معها الذكريات والصبايات وتتبادلان كحل السهر والدمع، ولكن فحص الواقع بمنظار موضوعي ونقدي لأوضاع الكبار الأسرية والاجتماعية يشي بأن أمهاتنا وآباءنا الذين ابتاعوا لنا زهو أعمارنا اليوم بعذابات وزهور أعمارهم بالأمس لا ينالون - وخاصة في الأوساط الاجتماعية الرقيقة الحال - ما يفي بكل حاجاتهم الصحية والاقتصادية والاجتماعية والترفيهية والعقلية وحاجاتهم إلى التواصل والتفاعل الاجتماعي الذي يعبر عن تقدير خبراتهم وعطائهم، كما يعبر عن امتنان الأسرة والدولة والمجتمع لأدوارهم الأسرية والوطنية المشرفة. ولا أظن انني انكأ آلام المسكوت عنه في بعض أوضاعنا الاجتماعية التي تعيشها شريحة من الآباء والأمهات الكبار، (ولا أقول المسنين لأنني لا استسيغ هذا التعبير وأجده تعبيراً غير عادل عما تتوج به السنون الآباء والأمهات من جمال التقدم العمر الذي قد لا يراه إلا المبصرون والشعراء أو قد لا نلحظه بعيوننا العادية والمعتادة مقاييس جاهزة من الجمال). فمن الأوضاع التي يعيشها عدد من الأمهات والآباء اقتصار علاقاتهم الاجتماعية على حلقة ضيقة من المحيط الأسري ترتبط غالباً بالأبناء والبنات والأحفاد وفي لقاءات دورية أو في زيارات الأبناء والبنات الخاطفة بعد العمل أو بين (عشاوين)، وكأن الواحد منا يقوم فيها بتتميم واجب، بتبادل كلمات مقتضبة وابتسامات مرسومة والاكتفاء ب(حبة اليد) أو قبلة الرأس مع من كانوا يسفحون ساعات سخية من أعمارهم في مناغاتنا وفي تعليمنا الكلام وربما القراءة والكتابة وفي اللعب معنا وفي تطبيب أمراضنا وجروحنا وتغيير ملابسنا الداخلية، والصبر علينا، والوقوف معنا في الكبوات الصغيرة والكبيرة وامتصاص قلقنا ومشاركاتنا أفراحنا، وفي شمنا وضمنا وعناقنا وأخذنا في أحضانهم بغير حساب. ومن الأوضاع التي يعيشها بعض الآباء والأمهات أو من في حكمهم من كبارنا أن ترى سيدة أو سيداً يأتي إلى المستشفى في حال يرثى لها مصحوباً وحده بالخادمة أو السائق، وقد يتكرر هذا المشهد في حالات قد يكون لدى بعضهم عشرة من الأبناء والبنات المشغولين عنهم بأعباء حياتهم الخاصة كما قد تأتي أو يأتي في هذا الوضع من ليس له أبناء ولكن لديهم جيش من أبناء الاخوة والأخوات. ولا أدري إذا كان في مستشفياتنا أجنحة أو طاقم مدرب للتعامل مع مثل هذه الحالات ولكنني أدري انه لا توجد مصحات متخصصة سواء أهلية أو حكومية للتعامل مع بعض الحالات المرضية المرتبطة بالأوضاع الصحية للكبار. كما أعلم انه باستثناء (المركز الاجتماعي للأمير سلمان بمدينة الرياض) فإنه لا توجد أي أندية رياضية او اجتماعية أو ثقافية أو ترفيهية في الأحياء تخلق نوعاً من البديل الاجتماعي للفراغ الذي قد يعيشه الكبار وتوسع من دائرة تفاعلهم الاجتماعي خارج محيطهم الأسري المباشر. غير انني لا أعلم، وإذا كان هناك من يعرف غير ذلك فله أن يقوم بتصحيح معلوماتي، بوجود أي جهة ثقافية تحاول ان تحفظ للأجيال الآتية ذاكرة جيل الآباء والأمهات خاصة وأن مجتمعنا مر بنقلة نوعية في الفارق بين تجربتنا المعيشية وتجربة جيل الآباء والأمهات بما كان ولا يزال ربما هناك متسع من الوقت لتسجيله بالإصغاء المكتوب أو المتلفز لتجارب الآباء والأمهات أمد الله في أعمارهم ومتعهم بنعمة العافية. وبعد وباختصار مخل لا بد قبل فوات الأوان أن تكون هناك خطة وطنية وجزء من الميزانية لخلق بدائل حياتية مثمرة وممتعة للكبار غير تركهم يرتعون في الفراغ أو تتخبطهم الوحدة التي تزيد شراسة الآلام الصحية. وإن كنتُ لا أحبذ وجود (مؤسسات) معزولة يعيش فيها الكبار فإن المؤسسة الوحيدة التي أعرف انها تحمل مسمى (دار المسنات) تعتبر مع الأسف، رغم الرعاية التي تحظى بها تلك المؤسسة، ملجأ لبعض الأزواج وأولياء الأمور لإيداع غير المرغوب فيهن من الزوجات أو القريبات بغض النظر عن المرحلة العمرية. إلا أن التجربة المؤسسية التي تستحق التطوير في مجال رعاية الكبار اللاتي ليس لهن سند أسري على الاطلاق فهي تجربة (الرُباط) المعروفة تاريخياً وتحديداً بمنطقة الحجاز والتي آن الأوان لإدخال الكثير من التعديلات والإضافات التطويرية عليها من حيث الشكل والمضمون كإحدى مؤسسات المجتمع المدني في مجال العناية بالكبار. والكلمة الأخيرة التي أريد أن أختم بها هي أن أذكر بدور القطاع الخاص في خلق مؤسسات اجتماعية وصحية وترفيهية وثقافية توجه خدماتها لفئات الكبار من الآباء والأمهات دون أن يعفي هذا الدولة والمجتمع من التزامهم بتوفير سبل حياة كريمة، مثمرة وممتعة لكبارنا وفاء لهم على تاريخ حافل من التضحيات والعطاء.
|