منذ بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق توحدت جزيرة العرب تحت راية لا إله إلا الله، بقيادة محمد رسول الله، فتآزرت القلوب وصفت، واختفت الفتن والمحن، وزالت مظاهر الشرك، فلا ثأرات قبلية، ولا تمايزات طبقية، ولا سيد ولا مسود، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى فالكل أمام الله سواء. بهذا وعلى هذا تآخى أهل جزيرة العرب على المحبة في الله، وضرب الأنصار للمهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المثل الأعلى في المحبة والأخوة، وتنادت كل قبائل جزيرة العرب بهذه المحبة والأخوة تتسابق إليها، فلم يعرف تاريخ البشرية حباً وإيثاراً وأخوة أعظم من حب أبناء جزيرة العرب لبعضهم بعضاً وإيثارهم بعضهم على بعض ولو كان بهم خصاصة، فكان ذلك أغلى ثمن يقدم لأخوة صادقة حميمة مخلصة أمرهم الله بها من فوق سبع سموات، فعاشوا حقيقةً في أنفسهم، وقدموها عملاً صادقاً ومحبة خالصةً لوجه الله، وانطلقوا بها يفتحون مغاليق قلوب الشعوب والأمم فتدين لهم بالمحبة والولاء قبل أن تطأ أقدام خيولهم أراضيها. كانت قبائل جزيرة العرب النجدية والحجازية واليمانية والحضرمية في طليعة الفتوح الكبرى إلى مصر والشام والأندلس فكانوا القادة والوزراء والعلماء والقضاة على نحو ما تشهد به كتب التاريخ والأدب، فكانت هذه القبائل التي انطلقت من جزيرة العرب المادة الأصل التي أعطت لما سمي فيما بعد بالوطن العربي الكبير عروبته، وما كان لتلك البلدان أن تصبح عربية إلا بالإسلام الذي اختار الله انبعاثه في جزيرة العرب، واختار أن يكون انتشاره على يد أبنائها دون غيرهم - بداية - وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وكما وحد الله قلوب أهل جزيرة العرب بالإيمان على المحبة والإيثار والإخاء وحد طبيعة أرضها، ونوع مناخها، فالأرض منبسطة في وسطها لا يعترض السائر على قدميه من نجد إلى حضرموت سهل أو جبل ولا نهر أو بحر، جبالها في أطرافها وسواحلها رطبة ندية، فمناخ جدة والدمام والخبر على البحر الأحمر والخليج يماثله مناخ الحديدة وعدن والمكلا على البحر الأحمر والمحيط، ومناخ المرتفعات البارد والمعتدل في الطائف يقابله مناخ صنعاء وما حولها، والمناخ الصحراوي الجاف في قلب الجزيرة تتساوى فيه الرياض بنجد مع سيوون بحضرموت. وقد انعكس هذا التشابه في المناخ وطبيعة الأرض إضافة إلى الإيمان العميق الراسخ في القلوب، انعكس على طبيعة البشر وعادات المجتمع، وأهم الطبائع التي تجمع أبناء جزيرة العرب، الكرم وحبهم للخير، والتسابق على الإيثار، وقد يتبادر إلى ذهن من لم يقرأ التاريخ أن هذه الصفات ظهرت مع ظهور الثروة في العصور الحديثة، وهذا غير صحيح لأن الكرم وحب الخير صفات ترتبط بطبيعة النفس البشرية ولا علاقة لها بالأحوال الاقتصادية، ويستوي فيها الغني والفقير، لأنك قد تجد في طبائع البشر غنياً ذا نفس فقيرة فلا يجود بينما يجود فقير ذو نفس غنية. وبالمثل فإن الدارس للعادات والتقاليد في كل مواطن جزيرة العرب قبل الإسلام يجد أنها واحدة في محاسنها كالغيرة على العرض والذود عن الأرض، وإكرام الضيف، وإجارة المستجير، وإغاثة المكروب، والتعاطف، والتراحم، والوفاء بالعهد، والصدق، والأمانة، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق) ولم يقل لأرسي مكارم الأخلاق مثلاً.. رفع الإسلام من قدر مكارم أخلاقهم وأكد عليها وأضاف إليها وحط من أخلاق جاهليتهم وطبائعها وعاداتها ونهاهم عنها، وكلما ظهر منها عليهم شيء سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ناهياً (دعوها فإنها منتنة) وكلما اختلفوا سمعوه يقول آمراً: (لا ترجعوا من بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وكلما تمايزوا بغير تقوى الله سمعوه محذراً مغضباً: (لا يأتني الناس يوم القيامة بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.. من أبطأ به عمله لم يسبق به نسبه.. والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)!!. وكما حفظ الله لجزيرة العرب وحدة قلوب أهلها وترابها بعد أن أعطاهم فضل حمل الرسالة وأداء الأمانة، حفظ لها وحدة دينها دون سائر بلاد المسلمين، فلا ترتفع راية لدين غير دين الإسلام فيها، وفق ما قاله نبينا صلى الله عليه وسلم (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) وهذا تشريف ثالث لهذه الجزيرة بعد اختيار رب العالمين لرسوله من بين أهلها، ووجود الحرمين الشريفين على أرضها يحج إليهما المسلمون من كل فج عميق. فلا عجب بعد هذا كله أن تكون العلاقة بين منظومة دول الخليج والمملكة العربية السعودية واليمن في منتهى التوافق والتكامل والانسجام، وإنما العجيب أن يكون غير ذلك، فالشعب واحد والأرض واحدة، والتاريخ واحد، وتاريخ مستمر لأنه يقوم على رابطة العقيدة الحية التي لا تموت، فإذا كان التاريخ في قواميس اللغة أو مصطلحات بعض الحضارات هو الماضي الذي حدث وانتهى وانفصل عن الحاضر، فإن التاريخ عند العرب بعد الإسلام متصل لا ينفصل ما داموا مرتبطين بعقيدتهم، لأن هذه العقيدة هي التي أدخلتهم التاريخ وبدونها ينفصلون عنه ويخرجون منه. والتلاحم والتعاضد الذي يحدث الآن بين أبناء جزيرة العرب متمثلاً في تقوية الوشائج والروابط والشعور المشترك بوحدة المصير بين وطنين في الجزيرة العربية يعيش فيهما شعب واحد ما هو إلا امتداد لهذا التاريخ العظيم الذي تتصدره أكبر قوتين في الجزيرة العربية، المملكة العربية السعودية واليمن، وإذا كانت الخلافات السياسية قد عكست صفو العلاقة بين الوطنين فما ذلك إلا لحظات عابرة من عمر التاريخ وسطحية لم تؤثر على وشائج القربى والرحم بينهما.. وما يؤكد هذه الحقيقة الازدهار العظيم الذي تمر به هذه العلاقة الحميمة من خلال التواصل الرسمي بين الدولتين، والتواصل الوطني ضمن لحمة نسيج شعب واحد في وطنين. وما يتحقق الآن على مستوى الوطنين ما هو إلا تطبيق لمبدأ (يد تبني ويد تحمي)، فكل وطن هو عمق إستراتيجي للآخر، والتعاون الأمني بين الوطنين ضد الإرهاب أكد هذه الحقيقة، وبدونه ما كان لفتنة الإرهاب أن تخمد نارها بالشكل الذي هي عليه الآن، وفي الوقت الذي تسهر عيون المخلصين على حدود الوطنين وفي أعماقهما على تتبع المرجفين تتحرك أيدي المخلصين للبناء وعقول المفكرين بالتخطيط لمستقبل أكثر أمناً ورخاءً وازدهاراً يسود ربوع جزيرة العرب. حركة التكامل على المستوى الاقتصادي بين الوطنين في تبادل المتنجات بحرية أكثر، وما تشجيع المملكة لرجال الأعمال من مواطنيها بالاستثمار في اليمن الشقيق لتوسيع القاعدة الصناعية والإنتاجية والمساهمة في التنمية الوطنية إلا وجه آخر من وجوه دعم المملكة لشقيقتها اليمن، فإذا كانت المملكة في مراحل البناء التنموي الأولى قد حلت معضلة اقتصادية باستيعاب العمالة اليمنية الفائضة ونظرت بالتقدير لما قدمه إخوانها اليمنيون لنهضتها المعمارية وحركتها التجارية، فإنها الآن بتشجيع الرأسمال الوطني السعودي بالاستثمار في اليمن تعمل على استيعاب هذه العمالة داخل وطنها اليمن، بتوفير أسباب العيش الكريم لها، وهو عامل من أهم عوامل استقرار الأوطان في كل زمان ومكان. (وللحديث بقية)
|