كنتُ في مقال يوم الخميس للأسبوع الماضي قد حددت الموضوع الذي أتناوله تحت العنوان أعلاه بتناول جانبين محددين رأيت أنه لا بد من تعزيز السلوك الحضاري بالجامعات تجاههما.. وهما جانب موقع عضو هيئة التدريس من عملية التعليم الجامعي، والبحث الأكاديمي، وجانب موقع الطالب - الطالبة الجامعية في العملية التعليمية.. أما وقد أفضت بقدر المستطاع في التناول النقدي لبعض الجوانب المتعلِّقة بموقع عضو هيئة التدريس ومقترحات تطوير هذا الموقع من حيث جودة وأمانة الأداء، فإنني أفرد هذا الحيز لتناول موقع الطالب بالجامعات في مطلب تعزيز السلوك الحضاري بين الطلاب. وفي هذا الجانب المتعلِّق بضرورة تعزيز السلوك الحضاري بين طلاب وطالبات الجامعات، أرى أنه لا ضرورة للتعليم الجامعي إذا كان عاجزاً عن إحداث نقلة نوعية في حياة الطلاب في علاقتهم بذواتهم وفي علاقتهم الاجتماعية بما فيها علاقتهم ببعضهم البعض وفي علاقتهم بمجتمعهم على المستويين المعرفي والسلوكي.. فأبناؤنا الطلاب والطالبات الذين نقف أمامهم في مدرجات الجامعة اليوم، على سبيل المثال، هم الذين سيكونون في مواقعنا غداً أمام مدرجات أفواج جديدة من الأجيال بالجامعة.. كما سيكونون في مواقع المسؤولية بمجالات العمل الأخرى بالمجتمع، وإذا كانت بعض القراءات السوسيولوجية لعملية التعليم الجامعي مثل القراءات (الجرامشية) ترى أن التعليم الجامعي هو أحد أسباب المجتمع لإعادة إنتاج مواطنين يستجيبون للتوقعات الاجتماعية السائدة وللنظام الاجتماعي القائم فإنه توجد قراءات تربوية أخرى ومنها قراءات (فراري) التي ترى في التعليم أحد أسباب المجتمع للتفوق على الواقع المعطى نحو المستقبل المنشود.. وفي هذا الإطار الذي يعطي العملية التعليمية قوة تغيرية في تطوير المجتمع معرفياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وتقنياً وسلوكياً بما ينقله من الصفوف الخلفية في منظومة المجتمع الدولي إلى مصاف الدول المتقدمة، وبما ينشله من علاقات التبعية إلى علاقات الندية والاستقلال، فإن إحدى الوظائف الرئيسة والحيوية للتعليم الجامعي تتمثَّل في قدرته على أن يقود إلى تطوير نوعي في حياة الطلاب العامة وفي حياتهم الجامعية على وجه التحديد.. وتشمل عملية التطوير النوعي لحياة الطلاب التي يفترض أن يؤدي ويقود إليها التعليم الجامعي عدة جوانب أساسية من جوانب نشاطهم الإنساني كمواطنين وكطلاب يعلِّق المجتمع على أكتافهم الشابة قناديل المستقبل.. ويناقش المقال منها الجوانب التالية: * جانب تطوير سلوك حضاري في الحياة اليومية للطلاب والطالبات داخل وخارج الحرم الجامعي. في ضرورة مواجهة التعليم الصعبة لهذا الجانب، دعوني أقول بصراحة بأن إلقاء نظرة عجلى على وجود الطلاب في ساحة الحرم الجامعي من يومهم الأول للالتحاق بالجامعة إلى أن يتخرج بعضهم تكشف عن وجود حاجة ماسَّة لأن يتدخَّل التعليم الجامعي لتعليمهم بعض مكتسبات السلوك الحضاري.. فتزاحم الطلاب وأخص مشاهدتي في أقسام الطالبات للدراسات الجامعية أمام نوافذ التسجيل لموادهم الدراسية وللحذف، أو الإضافة في فوضى، وفي محاولة إزاحة بعضهم البعض بالأكتاف والأيدي، وتكرر المشهد أمام بوابات الدخول والخروج عند مداخل المصاعد وأمام أبواب المحاضرات، وتجمعهم في الممرات قريباً من مدرجات وفصول المحاضرات، أو بجانب أبوابها بينما يعلمون أن بالداخل زملاء لهم لا يكاد يصلهم صوت المحاضر، ولا يستطيعون التركيز لشدة ما يصلهم من لغط، وأصوات عالية لا يبالي أصحابها بخفضها احتراماً لحرمة الدروس الدائرة رغم أحياناً مقاطعة الأساتذة للدرس وخروجهم للطلب من المتجمهرين قرب قاعات الدرس باستجداء، أو بصراخ الابتعاد أو خفض الصوت إنما يشكِّل دليلاً قاطعاً على ضرورة إعادة تربية الطالب تربية تكسبه مبادئ السلوك الحضاري في حياته اليومية، ومنها مبدأ أين تنتهي حريته وأين تبدأ حريات الآخرين؟.. ومثل هذا المطلب يصبح مُلحاً أيضاً إذا ألقينا نظرة على مخلفات الأكل والشرب التي يتركها الطلاب - الطالبات دون اكتراث على أرض الحرم الجامعي أو في الفصول يحوم حولها الذباب بينما طلاب جامعات مجتمعات أخرى يشكِّلون الجمعيات لحماية البيئة ونظافتها. * جانب توسيع الأفق في بناء العلاقات الاجتماعية داخل وخارج الجامعة بما يمكِّن الطالب من تقبُّل التعدد والاختلاف والمغايرة والتعامل معها ضمن الحفاظ على لُحمة المجتمع، وبأساليب سلمية، ومنها أسلوب التحاور والتسامح والإقناع وتبادل احترام القناعات المختلفة.. ويكشف عن وجود تعثر في هذا الجانب بجامعاتنا تقوقع بعض الطلاب الشللي المنغلق على ما ورثوه، أو صادفوه في الجامعة من صداقات المدرسة والمعارف من أبناء الأهل والأقارب أو تقوقع علاقاتهم الاجتماعية الجديدة داخل حيز المناطق التي جاؤوا منها، أو القبائل التي ينتمون إليها.. هذا بالإضافة إلى وجود عينة تعاني من الانغلاق الفكري المتعالي على كل من لا يتفق معها في مشارب التفكير بما يشكِّل سداً منيعاً في وجه تطوير أساليب الأخذ والعطاء بين طلاب - طالبات الجامعة في مناخ من التسامح والحوار والأمن. * جانب القدرة على إعمال العقل بدل توقف النمو عند التلقي والاكتفاء بالتكرار أو النقل. ولعلي هنا أكتفي بمثال حرص بعض الطلاب والطالبات إن لم أقل استماتتهم على حصر تعليمهم الجامعي في بضع صفحات من هذا المقرر أو ذاك.. فتراهم يلاحقون أساتذتهم بسؤالهم عن تحديد الصفحات التي سيأتي منها الاختبار ليقوموا بحفظها وترديد ما جاء فيها بطريقة نقلية ميكانيكية تكفيهم مؤونة مجرد التفكير في حل أسئلة الاختبار. * جانب التفاعل المنتج مع الأنواع المتعددة للمعرفة الإنسانية والأوعية الحضارية المنتجة لها بما فيها المعرفة العلمية. * وفي هذا الجانب نشير إلى عملية التكامل التي لا بد منها في التعليم الجامعي بين مختلف جوانب المعرفة الإنسانية والربط بينها وبين المعرفة العلمية التي يقدمها التعليم الجامعي، مع استيعاب الأوعية الحضارية التي تصدر عنها تلك المعارف، بينما غالباً ما يعوز الطلاب الطالبات لا لقصور فيهم أحياناً بل لقصور قد يتعداهم إلى مضمون وكيفيات عملية التعليم التي قد تساهم في إقفال عقل الطلاب على معارف كتب المقررات، أو بضع فصول من المذكرات المجزوءة في تعاطيها مع المعرفة العلمية عن مياه المعارف الإنسانية الأخرى وبعدائية أحياناً للأوعية الحضارية الأخرى. * جانب اكتساب المهارات المنهجية في التفكير والبحث معاً. ومثال ذلك أن عدداً غير قليل من طلاب - طالبات الجامعات قد يتخرجون من الجامعات، دون أن يعرفوا تأصيل مرجع في متن البحوث أو هوامشها ناهيك أن يكونوا قد أتقنوا العمل المنهجي في البحث والتفكير. * جانب اكتساب المهارات التقنية والتطبيقية. وأكتفي في طرح هذا الجانب بطرح السؤال: كيف لطلاب يطلب منهم أساتذتهم أو على الأقل يتساهلون معهم في أن يلجؤوا لمراكز خدمات الطالب المنتشرة باستشراء حول الجامعات في طباعة بحوثهم ومقالاتهم على الكمبيوتر وفي تحليل البيانات الإحصائية للبحوث أن تتطور لديهم المهارات التقنية الأولية في تعليمهم وعملهم الجامعي؟ * جانب الربط بين علوم التخصص وبين الواقع الاجتماعي وحاجاته. أما في مسألة الربط بين علوم التخصص وبين الواقع الاجتماعي وحاجاته فليس لنا إلا أن نصغي للطلاب - والطالبات وهم يجأرون بالشكوى من خيبة الأمل الشديدة التي يمنون بها عندما يشعرون أن تعليمهم يخلو من أي جانب تطبيقي أو ميداني، بل إنهم يذهبون إلى القول في بعض الأحيان إنه ينأى بهم عن المجتمع وحاجاته. * جانب هامشية أو تهمش الطلاب سواء في تلك العلاقات السلطوية التي تربطهم بأنظمة الجامعة أو ببعض الأساتذة أو في جانب حيادهم أو تحييدهم عن أبسط أشكال المشاركة في حياتهم الطلابية وفي قرارات تعليمهم الجامعي. وفي هذا الجانب لا بد أن نسأل أين يُتاح للطلاب تعلُّم المشاركة الاجتماعية والوطنية إذا لم يُدربوا على أبسط أشكالها بالجامعة؟. وأختم بسؤال أتركه معلّقاً، وأعلم أننا لن نحار في الإجابة عنه طويلاً إذا امتلكنا طلاباً وأساتذة وأصحاب قرار من الشجاعة الأدبية والحرص على مصلحة الأجيال وحب الوطن ما نصلح به الحال.. وهو سؤال أما آن الأوان لبدء حملة لتعزيز السلوك الحضاري لدى طلابنا بالجامعات؟ هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
|