عندما وقف الخليفة العباسي هارون الرشيد، في شرفة قصره ونظر إلى السماء، فرأى سحابة تتمخطر في الفضاء الرهيب جادَّة في سيرها، نحو الأفق البعيد خاطبها قائلاً: أمطري - حيثما شئتِ فسيأتيني خراجُك. * والذين يقرؤون علينا هذه الجملة ذات المعاني البليغة يعتقدون أن هارون الرشيد كان يفتخر باتساع ملكه وعظيم سلطانه وتلك حقيقة تاريخية وجغرافية معروفة ولكن الجميع يغفلون عن التفسير الحقيقي للجملة الهارونية الشهيرة. * كان هارون الرشيد حقيقة يشيد بمصلحة الضرائب العباسية الكفؤة ويزهو بنظام ضريبي فعَّال ويشير إلى ثقته في أن رعاياه سيزرعون ويحصدون ثم يؤدون خراج زرعهم وزكاته وان عماله في الأقاليم سيجمعونه ويحفظونه وينقلونه أعياناً وأثماناً إلى عاصمة الخلافة فتمتلئ الخزائن وتكثر النفقات وتحسَّن الخدمات وتدفع مرتبات الجند، وتجزل العطايا للشعراء والمفكرين والفقهاء ورجال الدولة، وتبذل الصدقات للمحتاجين والمساكين والفقراء. * هذه الثقة الكبيرة في النظام (الضريبي) أمر لا يدعو إلى العجب في عهد هارون الرشيد وعلى الرغم من الجدل الذي يدور حول زمان الرشيد فقد كان زماناً يتصف بالرخاء الاقتصادي والتوسُّع الحضري، وحرية التبادل التجاري بين أقاليم الخلافة دون قيود إجرائية أو جمركية أو صعوبات تبادلية، كانت أرض الخلافة تشكل منطقة نقدية واحدة تتحرك في أنحائها عناصر الإنتاج بحرية تكاد تكون كاملة. وإذا كنَّا نعرف رأي الخليفة القدير في نظامه الضريبي وسعادته بالقاعدة الضريبية الضخمة التي كان يقوم عليها ويمولها اقتصاد حر ونشط فنحن لا نعرف آراء دافعي الضرائب والرسوم وغيرها ونحن لا نعرف أيضاً نسبة التهرّب الضريبي المشروع وغير المشروع ولم نطَّلع على قائمة العقوبات التي تُوقَّع على المتهربين من دفع الخراج. * وبالطبع لم يكن النظام الخراجي الرشيدي قائماً على نظام تمثيلي نيابي فالنظام مؤسس على قواعد شرعية ثابتة بالنسبة للزراعة وضروب التجارة، والمواشي.. الخ. وهناك قائمة رسوم أخرى تفتق عنها وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي استفاد من الأنظمة الفارسية والرومية، فرضها التطور الاقتصادي والإداري في دولة الخلافة العباسية، وفي زمن هارون الرشيد. * كان هارون رشيداً في كثير من الأمور وكان انفعالياً عاطفياً متناقضاً في أمور أخرى وكذلك كان عهده ورجاله ولكنه بلاشك كان مديراً اقتصادياً ناجحاً وليس أدل على ذلك من الرخاء الذي عمَّ أرجاء الخلافة وانعكس على نهضة فكرية دينية وأدبية وامتداد في العمران وتطور كبير منفتح لأنظمة البناء ومشاريع البنية الأساسية. * اذا كان النظام الضريبي الفعَّال مما يسعد الخليفة وكل خليفة فإن السعادة الحقيقية التي يجتمع عليها الخليفة والرعية تكمن في اقتصاد منتعش نشط محرر من القيود والإجراءات والروتين القاتل تنطلق فيه الطاقات وتتحقق الإمكانات وتثمر المبادرات ويقطف الجميع خيراته وإنجازاته. * تلك هي السحابة الممطرة التي تنطلق في الفضاء الرحيب محررة إلا من أثقال مائها العذب النمير، تؤتي خراجها حيثما أمطرت.
|