عندما هيمنت الدولة السعودية الأولى على معظم الجزيرة العربية وقامت بنشر دعوتها الإصلاحية وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعها، أخذت في تشييد القلاع والحصون القوية لتتمكن من نشر مبادئها وتثبيت نفوذها، فكان لها ما أرادت من نشر الدعوة السلفية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن غاية همها، وهدفها الأسمى، هو تحقيق الرسالة الربانية، والسير على المنهاج القويم، وبذلك الهدف العظيم، مكن الله لها في البلاد وأحبها العباد، وكانت الدولة السعودية الأولى تبني القلاع والحصون في البلاد المفتوحة حتى وإن كان فيها قلاع قائمة (1) ومما يدل على ذلك شهادة (مختصر مطالع السعود) أمين المدني حيث قال:( غزا الكتخذا علي بك بأمر الوزير سليمان باشا (الحسا) من البحرين بعدما تولاها سعود بن عبد العزيز بنى فيها القلاع المحكمة) (2) ومن المناطق التي فتحتها الدولة السعودية الأولى وشرعت في بناء قلاع بها، هي منطقة الأحساء، ومن تلك القلاع (قصر إبراهيم بن عفيصان) في مدينة الهفوف، وقد تم بناؤه أثناء إمارة إبراهيم بن عفيصان للأحساء، في الربع الأول من القرن الثالث عشر الهجري بناءً على أوامر الإمام سعود بن عبدالعزيز. وكان بناء القصر في أهم المواقع الاستراتيجية في مدينة الهفوف، داخل حصن (الكوت)، الذي كان من بناء العثمانيين يقول مؤلف لمع الشهاب: وكان كوت الهفوف محكماً بنيانه لأنه بنيان الروم) (3) وفي معنى الكوت يقول آل عبدالقادر: (الكوت بمعنى الحصن، وسُمي الكوت بذلك لأنه مدار بسور وخندق يفصله عن بقية المدينة) (4) ويقول (فيدال) عن مدى صلابة وقوة حصن (الكوت): يعد سور حي الكوت هو الأعلى والأقوى في الأحساء وقد دعم بثلاثين برجاً. توجد بقايا الخندق القديم موازية له في الشمال والغرب وجزء من جنوبي سور الكوت.. ويبلغ عرض السور في بعض الأجزاء أكثر من عشرين قدما، إضافة لوجود ممرات للدفاع ومواضع للمدافع (5) وهو بذلك يختلف عن وصف (قصر إبراهيم) الذي أنشئ في عهود متأخرة، أما الحصن فقد بناه العثمانيون وبنوا في زاويته الشمالية مسجد القبة، وعند فتح السعوديين للأحساء شيدوا (قصر إبراهيم) داخل الحصن ليكون مقراً للإمارة وقاموا بضم مسجد القبلة إلى داخل القصر، مما جعل بعض الباحثين المتأخرين يظنون أن (قصر إبراهيم) من بناء العثمانيين استنادا إلى أن المسجد من بنائهم؟ وقد بينت حدود هذا المسجد وأوقافه، وثيقة لأحد الأوقاف التي أوقفها علي باشا والتي توضح أن المسجد بني داخل حصن (الكوت) وليس القصر، ومما جاء في نص الوثيقة: (ويحد الدكاكين المفروزة التي بالسوق غرباً الدرب وشمالاً بقعة السوق وشرقاً الممر الفاصل بينها وبين المسجد الجامع (مسجد القبة) وجنوباً دار عبدالمحسن، ومرجان والفرن) (6). ومن غير المعقول أن يوجد داخل القصر سوق وفرن ودور لبعض الأفراد، ودكاكين توقف على المسجد. وإنما هذا الوصف ينطبق على حصن (الكوت)، ويقول (فيدال) عن دكاكين حصن (الكوت): كان يوجد داخل الكوت في ذلك الوقت عدد من الدكاكين والمخازن التي كانت بفضل وجود سور الكوت القوي تمكن الحي من الاكتفاء الذاتي خلال هجوم الأعداء (7). وحصن الكوت هو الذي أشار إليه بعض المؤرخين بأن العثمانيين شيدوه عند احتلالهم للأحساء، يقول عثمان بن بشر: (استولى الروم على بلاد الأحساء ونواحيها ورتبوا فيها حصونا)(8) ومن الأدلة القوية التي تؤكد أن القصر قد بناه السعوديون داخل حصن (الكوت) في عهدهم الأول قول مؤرخ الأحساء الشيخ آل عبدالقادر:( الكوت بمعنى الحصن، وسُمي الكوت بذلك لأنه مدار بسور وخندق يفصله عن بقية المدينة، وفيه قصور الإمارة، وقصر كبير يسمى قصر إبراهيم منسوب إلى إبراهيم بن عفيصان لكونه المشرف على بنائه حين استولى الإمام سعود على الأحساء في أوائل القرن الثالث عشر الهجري (9). ويؤكد هذا كلام كثير من المؤرخين لعل أبرزهم مقبل الذكير بنفيه أن يكون القصر من بناء إبراهيم باشا بل الصحيح أنه منسوب لإبراهيم بن عفيصان فيقول: إن نسبة القصر إلى إبراهيم باشا المصري غلط والصحيح نسبته إلى إبراهيم بن عفيصان (10) وكذلك حمد الجاسر وغيره من المؤرخين. ومما يرجح هذه الحقيقة أن المؤرخ عثمان بن بشر في تاريخه عندما تحدث عن الفترات السابقة للعهد السعودي في الأحساء كان يذكر لفظ (الكوت) فقط أي الحصن، فمثلاً عندما تحدث عن استيلاء بني خالد على الأحساء من العثمانيين قال.. قتلوا عسكر الباشه الذين في الكوت (11) ولم يقل (قصر الكوت). وفي بداية العهد السعودي قال في أحداث 1207هـ (وكان محمد بن غشيان ورجال معه جعلهم سعود في كويت الحصار) (12)، وعندما تحدث عن الصراع مع المعارضين ذكر (حصن الهفوف) الذي كان سبباً لصد الغزو العراقي عام 1213هـ (13)، وأما بعد ذلك فكان يشير إلى أن هناك (قصر في الكوت) فيقول في أول ذكر لهذا القصر في أحداث 1254هـ: (ثم رحل (الإمام فيصل بن تركي) إلى الإحساء فلما وصل إليه نزل في الرفيعة فخرج إليه عمر بن عفيصان ورؤساء أهل الأحساء وبايعوه على النصرة والقيام معه وظهر ابن عفيصان من (قصر الكوت) المعروف ونزله فيصل بعياله وأثقاله (14). وفي موضع آخر يقول ابن بشر: فدخل الأحساء (أحمد السديري) ونزل بيت الإمارة الذي فيه عمر بن عفيصان في (قصر الكوت) (15) وكذلك في الأحداث اللاحقة كان يذكر (قصر الكوت) انظر: صفحات 391-392-405- 406-427 . حفظ الله هذه البلاد من كل مكروه وسوء ووفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما فيه خير البلاد والعباد. باحث في تاريخ الجزيرة العربية ص.ب 155824، الرياض 11768 slmeh@hotmail.com (1) عبدالرحمن الحصين: إبراهيم بن عفيصان القائد والأمير والداعية في الدولة السعودية الأولى، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير من جامعة أم القرى، 1409هـ، ص 122 . (2) أمين المدني: تاريخ العراق، ص 64 . (3) لمع الشهاب، تحقيق الدكتور أحمد أبو حاكمه، ص 129 . (4) محمد آل عبدالقادر: تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد، ج 1، ص 69، 70 (5) ف.ش. فيدال: واحة الأحساء، ص 104 . (6) عبدالله السبيعي : القضاء والأوقاف في الأحساء والقطيف وقطر، ص 149 . (7) ف.ش. فيدال: واحة الأحساء: ص 112. (8) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 11 . (9) محمد آل عبدالقادر: السابق، ج 1، ص 69، 70 . (10) انظر: مقبل العبدالعزيز الذكير: مخطوطة بخط المؤلف بعنوان (مطالع السعود في تاريخ نجد وآل السعود) ص 65. (11) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 24. (12) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 137 . (13) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 163 . (14) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 372 . (15) عثمان بن بشر: عنوان المجد في تاريخ نجد، مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ص 390 .
|