ليس هناك سطوة أكبر من سطوة المعلنين، فالجهة المعلنة قد تكون قادرة على حجب مقالة لكاتب لا يروق لها، لتنزل بدلاً من مقالته معجوناً للأسنان، أو لقاحاً، يجعل من الأصلع شخصاً كثيف الشعر، وهناك معلنون قادرون على حجب الملايين عن صحيفة نالت منهم، في خبر أو مقالة، بل إن الظاهرة الآن، أصبحت شراء شركات الإعلان، لمحطات تلفزيونية كاملة من الباب للشباك، لبث رسائلها الإعلانية بعدة طرق، بما فيها نشرات الأخبار، ولن نستبعد أن يخرج من تلك المحطات، هامور من هوامير السوق، متصدراً بأخباره وصراعاته ونزواته، معايير صارمة ودقيقة، وهذه المعايير قادرة على حجب حملات إعلانية كاملة، ومقاضاة مطلقيها إذا ركبوا رؤوسهم، ففي سنغافورة أعلنت (هيئة معايير الإعلانات) عن حظر نشر إعلانين عن تكبير حجم الثدي، لعدم توضيح الشركة المعلنة في الإعلان، أن (النتائج المرجوة من هذه العملية لم تقرها الدراسات الطبية) وتقضي القواعد التي أقرتها (هيئة معايير الإعلانات) السنغافورية مطلع العام الحالي، بحظر الإعلانات، التي تظهر فيها نساء قبل وبعد عمليات تكبير الثدي أو رجال كانوا صلعاً، وأصبحوا يتمتعون الآن بشعر كثيف، ما لم يثبت ذلك طبياً، مثل هذه المعايير هل هي مطبقة فعلاً في سوق الإعلانات العربية؟ الواقع يقول إنه لا توجد معايير أصلاً، باستثناء تلك المعايير التي تفرضها أجهزة الرقابة، والخاصة بمقاييس فتحة الصدر، وقصة الشعر، وقصر الفستان، وطريقة الحركة النسائية في الإعلان الصحفي والتلفزيوني. إننا نهتم بمكافحة كل ما يؤدي للإثارة الجنسية أكثر من اهتمامنا بالإثارة النفسية والأضرار الصحية.. سوق الإعلان الكبير نسبياً في بعض الدول العربية، خصوصاً مصر والمملكة ودبي والكويت وبيروت، لم يدفع القائمين عليه إلى وضع مقاييس أو ضوابط أمام المعلن، فقد تعود المعلن - حتى الآتي إلينا عبر القارات - أن يبث رسالته -مهما كبر في هذه الرسالة حجم الكذب والزيف- دون عوائق! هناك عشرات الأدوية المدمرة والعمليات الصحية (التخسيس وتكبير أو تصغير حجم الثدي، شفط الدهون، تعديل الأنف والشفتين وغيرها من العمليات) اعتدنا أن نقرأ الإعلانات عنها دون عوائق تذكر، مع أن بعض هذه الإعلانات دمرت نفسيات وجيوب وصحة، العديد من النساء والرجال والبيوت، ولعدم وجود هيئة مستقلة لمعايير الإعلانات، فإن كل صاحب حظ عاثر نام على بلوته، ولم يرفع صوته محتجاً، على (الإعلان المضلل)... لقد قرأت في إحدى الصحف المحلية، ستة إعلانات صغيرة، عن علاج لكافة الأمراض، وكل إعلان يحيل الراغب لمزيد من الاستفسار حول المواعيد وتكاليف العلاج، إلى هاتف جوال، وكل إعلان بجوال، وإن كان الهاتف في كل هذه الإعلانات واحداً! وقد رفعت سماعة التلفون لأستفسر لعل هذا الإعلان يعيد الشعر الكثيف إلى صلعتي، وبالمرة يبدلني شعراً أسود فاحماً بدلاً من شعري الذي تحدى بياض الثلج، لأجد أن صاحب هذه المنجزات كلها مستوصف صغير في الملز! ولأنه لا أحد يسأل، أو يقيم الدعاوي على الصحيفة التي من المفروض أن تكون لديها معايير للإعلان ولا وزارة الصحة ولا من يزور العيادات والمستوصفات المتخصصة ويخدع بكلامها ووعودها العسلية لكل ذلك فإن الصحف تنشر، ففي النهاية كله، مكسب..! في الصحف الكبيرة هناك معايير لكل شيء، فالإعلان رغم حرص الوسيلة الإعلامية عليه، إلا أنها تحرص على عدم تجاوزه الحدود المتعارف عليها أخلاقياً واجتماعياً، هناك أخبار إعلانية وترويحية كثيرة لرجال أعمال وأطباء وفنانين، نجدها في الصحف التي تحترم نفسها وقارئها منشورة وسط برواز خاص، لماذا؟ لأن هذه الصحيفة ربما خسرت سمعتها إلى الأبد، ولو قرأ قارئ ذلك الخبر فاشتم منه دعاية مبطنة، لشخصية ليست من صناع القرار السياسي أو الاقتصادي، بل ربما رفع دعوى على الصحيفة قد تؤدي إلى التشهير بها، وهي مرحلة من مراحل السقوط، التي سوف تتوالى بسبب قارئ حافظ وحرص على حقه، في أن لا يقرأ في وسيلته، التي يشتريها بحر ماله، خبراً أو تحقيقاً أو مقابلة صحفية مضللة، من شخص يريد أن يصل إلى قلوب الناس.. بفلوسه! من المؤسف أن في بلادنا هيئات صحية ورياضية وثقافية وعلمية وصحفية، ولا يوجد ما هو رافد لكل هذه الهيئات، وللإنسان وصحته وكرامته ، وهو هيئة لمعايير الإعلانات، تحدد ما ينبغي أن ينشر من الإعلانات، فالإعلان ليس صورة لامرأة جميلة، تروج لعطر أو قصة شعر أو فستان، لكنه أيضاً يتعلق بصحة الناس وسلامهم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وهنا مكمن الخطر!
فاكس 014533173
email.
|