أكبر همّ من همومي الوطنية، هو أن يأتي ذلك اليوم الذي نتوقف فيه نهائياً عن الاستفادة من تجارب إخواننا العرب في أي مجال كان.. كنت أتمنى وما زلت أن نبني جسوراً مباشرة مع الغرب دون أن تمر هذه الجسور عبر أي دولة عربية.. يمكن أن تكون مصر دولة كبرى وعريقة وتملك أشياء أصيلة تغطي كل العيوب العربية الناشئة من استيراد الثقافة الغربية، ولكن لبنان هي أفضل نموذج نتعرَّف من خلاله على تعاطي العرب مع الحضارة الحديثة. عندما أزور لبنان، أشعر أن الناس هناك لا يعيشون في بلد وإنما على خشبة مسرح.. أو أنهم ينفذون فيلماً سينمائياً.. هذا رئيس عشيرة، ولكن دوره في المسرحية، هو رئيس الحزب الوطني الاشتراكي.. وهذا طائفي متعصِّب، ولكن دوره في المسرحية عضو في البرلمان وممثل للتسامح الإنساني.. وهذا رجل بائس راتبه لا يتعدى ثلاثمائة دولار يلبس بدلة ثلاث قطع وكرفتة حتى يكون شبيهاً برجل يعمل في الوول ستريت.. وهذه فتاة لم تكمل تعليمها الابتدائي عليها أن تحفظ مجموعة من الكلمات الفرنسية حتى تلعب دور النادلة في مقهى باريسي. يمكنك في لبنان أن تكون في ثلاثة مواقع تختار منها ما تريد.. إما أن تكون على خشبة المسرح وجزءاً من الممثلين، وهذا ما يفعله السائح السعودي، أو أن تكون مع الجمهور المتفرِّج على المسرحية كما يفعل السائح الغربي، أو إذا شئت يمكنك أن تنتقل إلى ما وراء الكواليس لتتعرَّف على الواقع اللبناني الحقيقي. بحكم علاقاتي لم أصعد في يوم من الأيام إلى الوقوف على خشبة المسرح كما يفعل السعوديون.. وإنما تضطرني ظروفي العائلية أن أكون خلف الكواليس لأعيش مع اللبنانيين عندما يخلعون ملابس التمثيل ويعودون إلى حياتهم الطبيعية.. أول شيء ستتعرَّف عليه دون تكلف هو أنه لا يوجد ما يجمع اللبنانيين إلى بعضهم بعضاً سوى كراهية الوجود السوري.. وإذا أزلت مبرر الوحدة هذا ستشاهد أنك تعيش في دولة مقسومة إلى جزر من الأحقاد الطائفية حازمة التقسيم.. فاللبناني لا يشعر بأدنى انتماء إلى أي لبناني من طائفة أخرى.. (حتى المسلمون فيما بينهم والمسيحيون فيما بينهم) حتى على مستوى العلاقات الشخصية تلعب الطائفية دوراً أساسياً.. فالصداقة مثلاً محكومة بالتقسيم الطائفي.. ولكن على خشبة المسرح ستجد جورج يتباسط مع محمد، ومحمد يمازح علي، وعلي يضع يديه بمودة على كتف بشير.. وعلى خشبة المسرح ستطل عليك فتاة مزخرفة بكل الأصباغ الباريسية نصف كلامها فرنسي والنصف الآخر إنجليزي.. وبعد أن تنتهي من أداء دورها على المسرح تستلم أجرها البسيط لتركض إلى أقرب طبيب ليعالج أسنانها التي خرَّبها مرض السكر، أو أن تسلِّم هذا الأجر لماما وماما تسلِّمه كاملاً غير منقوص ل(خيها) الصبي لعله يعوِّض ما خسره يوم أمس في سباق الخيل (السبق).. وعلى خشبة المسرح ستسعد برجل أنيق ينظّر في حقوق المرأة والديمقراطية والفن السابع وأدب أمريكا الجنوبية دون أن يتخلى عن حقه خلف الكواليس في استعمال الكلاشنكوف والسيارات المفخخة لحسم الحوار إذا لزم الأمر لا سمح الله. الثقافة اللبنانية استطاعت بكل ذكاء تحويل الحضارة الغربية بكل تجلياتها العظيمة إلى دهان أو بويه تدهن بها الواجهات العشائرية والطائفية وثقافة امتهان المرأة.. فالحريري ليس الأول ولن يكون الأخير الذي يغادر خشبة المسرح بالأسلوب الحضاري اللبناني فلماذا العجب؟
|