لن نتمكن من القضاء على الإرهاب حتى نتمكن من القضاء على الفكر الضال، معادلة واضحة لا تقتضي كثيراً من التفكير، فالقتلة لا ينطلقون في أعمالهم من أجل تحقيق مكاسب شخصية ولا إرضاء لنزوة ذاتية خاصة وعلى استعداد لقتل أنفسهم فداء لهذا الفكر.. إن أول خطوة إيجابية تم إنجازها لتعريف الفكر الضال هو تخلص وسائل الإعلام من نغمة الفكر الدخيل، الانتهاء من تحميل الأجنبي مسؤولية ما يجري، لم يعد أحد يشك أن الفكر الضال إنتاج محلي يمكن تتبعه والوصول إلى منابعه، ربما تكون أصوله خارجية (سيد قطب ومحمد سرور وعبد الله عزام.. الخ)، لكنه تأصل وتجذر حتى اكتسب أصالته المحلية، لم يعد أصحاب الفكر الضال في حاجة إلى مساندة خارجية للتنظير لأهدافهم وتطلعاتهم بل أصبح لديهم فضلة كبيرة من الإنتاج المحلي تم تصديرها إلى أنحاء شتى من العالم.. ربما نكون الشعب الوحيد الذي لم يصدر الفكر فقط وإنما أتبعه بتصدير شباب مبرمج كآلة لتطبيق هذا الفكر على واقع الدول الأجنبية، نصدر البرامج والأجهزة التي تعمل في داخلها هذه البرامج، (البرمجيات والمعدات معا). لكن الاعتراف بأن الفكر الضال منتج محلي لا يكفي حتى نصل إلى تعريف حقيقي للفكر الضال، ولا يمكن أن نصل إلى تعريف للفكر الضال حتى نصل إلى أصحاب الفكر وأسماء المنظرين لهذا الفكر وتدرجاتهم، ليس في الفترة الأخيرة (فترة التقية: التحول من الصحوة إلى الوسطية !!) ولكن على مدى ربع القرن الماضي، ففي تلك الفترة تشكلت أدبيات ضخمة بنت وأصلت ونشرت الفكر الضال حتى كاد يصبح الفكر الوحيد الذي تتبناه الفعاليات الدعوية في المملكة. لا يصح التعرف على الفكر الضال (في السنوات الأخيرة خاصة) من خلال اتصاله المباشر بالأعمال الإجرامية التي ينفذها الإرهابيون، فأصحابه ومنظروه لا يحتاجون إلى الاتصال أو التخاطب المباشر مع المجرمين، لأن الفكر الضال فكر متكامل وشبكة من النظم المترابطة بقوة أضعفها اتصاله بالأعمال الإجرامية.. فمعطياته ومواقفه المختلفة من نواحي الحياة الحديثة تكفي لتحريض ودفع المنتسبين له من الشباب (المتحمس) إلى المبادرة إلى العمل وحدهم، فمن آلياته القاتلة التي يحرض بها الشباب المتحمس هو أن يضع ما تقوم به الحكومة ومثقفو هذا البلد من أعمال في حالة شك أو حتى عداء مع الدين، عندما تبادر الحكومة على سبيل المثال إلى إصدار قرار بإجراء تعديل معين على نظام من أنظمة البلاد يبادر أصحاب الفكر الضال إلى التشكيك (دينيا) في هذا القرار. وأقرب دليل على ذلك قرار دمج الرئاسة العامة للبنات مع وزارة التربية، فلو درسنا المواقف المتدرجة من هذا القرار لوقفنا على أطياف الفكر الضال التي نعرف منها قربهم أو بعدهم من منفذي الأعمال الإجرامية، فالذي يشكك في قرارات الحكومة التحديثية أو يحاول إدانة مثقفي البلد لا يختلف عن الذين ينفذون الأعمال الإجرامية إلا بالمسافة ودرجة التهور، يخطئ من يظن أن الفكر الضال هو ذلك الفكر الذي يحرض على القتل أو الجهاد المزعوم بشكل مباشر، فهؤلاء القتلة والمحرضون على القتل بشكل مباشر ليسوا سوى ثمرة فكر متكامل يعمل على تصنيع وبلورة المناخ المناسب لإنتاج المتطرفين والقتلة، فالفكر الضال أشمل وأعمق من مجرد الفكر المحرض على القتل المباشر. القضاء على الإرهاب لا يتم إلا بدراسة الفكر الضال، وتتبع امتداداته وجذوره والتعرف المباشر على قياداته والمراكز الثقافية والتعليمية التي تتكاثر فيها هذه القيادات حتى لا نقع في نفس الغلطة التي وقعنا فيها بعد حادثة جهيمان المشؤومة.
فاكس 4702164 |