(1) ** في مثل فرنسي وضعته مكتبة (الكشكول) شعاراً لها ورد: أن نصف الكتب لا تنشر، ونصف ما ينشر لا يباع، ونصف ما يباع لا يقرأ، ونصف ما يقرأُ، لا يفهم، ونصف ما يفهم يساء فهمه..! ** للمثل أن يبالغ قليلاً دون أن نحجب عنه حقَّ الإشارة إلى إشكالات الكلمة مع الرقابة، ومع القارئ، ومع الناشر، ومع الأدلجة والبرمجة، وهي بالتالي لغةٌ في (الاحتمالات) يشاءُ بعضُنا نقلها من النظريات الإحصائية إلى المحاكمات والمماحكات الذاتية..! ** قد تبدو هذه القراءة عابرةً وهي - لا شكّ - كذلك، إلا أن تبعاتها أفرزت فرقةً وخلافات كان لها الدورالأكبر في خلقِ ظواهر العنف المتبادل حين توارى صوتُ العقل الذي يكفل حقل القول والقول عليه، والرأي والرأي فيه..! (2) ** تعايشت (الجزيرة العربية) - قبل تحولاتها السياسية والاقتصادية المعاصرة - مع ما اعتادتْه في حياتها من شظفٍ وعوز فتأقلم الناسُ دون أن يعُوا كيف.. وإن أدركوا لماذا.. ولم يعبْهم الفقر مثلما لم يعيبوه..! ** هنا يبدو الفرقُ مهماً بين (الفقر) - بوصفهِ ظاهرةً اجتماعية واقتصادية مجردة- وبين (ثقافة الفقر) التي تتجاوز الشكل إلى المضمون، أو تنطلق من الخارج إلى الداخل، وتنتهي بظواهر مرتبطةٍ بها فينشأ بسببها التوسل والتسول والخضوع والسرقة وتجارة الإنسان وبيع الأعراض والاستهانة بالقيم، وما يتبع ذلك من موبقات وجرائم..! ** وإذن فثقافة الفقر أخطر كثيراً من الفقر ذاته، بل ربما كان الفقر فضيلة تحمي صاحبها من ملوثات الدنيا حين يرضى بقضاءِ الله دون أن يقف عند اللوم أو النوم..! ** والإشارة هنا هي لمحاولة التفريق بين (الظاهرة) ومعطياتِها؛ فعلاج الفقر ممكن، أما مسحُ ثقافته فعمليّةٌ مضنية لا يُتاح لها التوفيق دائماً لارتباطها بمصالح متشابكةٍ تتجاوز الفقراء إلى الأغنياء والمتنفذين والفاسدين المفسدين..! (3) ** أيُّهما أخطر.. الإرهاب أم فكره..؟ بالقياس السابق.. يتضاءلُ (الإرهاب) أمام فكرهِ الذي يتناسل ويتسلل بأشكالٍ مختلفة بحيث قد تبدو بعض ملامحه (أي الفكر) معقولة أو مقبولة في حين يبقى الإرهاب بلون واحد يراه الجميع ويحكمون بخطورته..! ** ومثلما تمكن معالجة الفقر بالعدالةِ الاجتماعية والزكوات والصدقات وأنظمة العمل والخدمة وما في سياقها، فإن الإرهاب قابلٌ للبتر كذلك بالأساليب الأمنية والإصلاح الشامل وحل مشكلات الفقر والبطالة، ولا يجادل باحثٌ في ارتباط الظاهرتين (الفقر والإرهاب) من حيث المنشأ والانتشار..! ** وإذْ يبقى (الإرهابُ) في طريق الانحسار فإن فكره يتمدد حتى بين مَنْ يحاربونه ليفرز ظواهر خطرة منها: أحاديّةُ الفكر، وإلغاءُ الآخر، والانتصارُ لرأي أو مذهب أو طائفةٍ وقمعُ سواها، وحمل الناس على الاقتناع بتجارب محددة طريقاً للخروج أو التحرر أو النجاة - حسب مصطلح القائلين بشتى توجهاتهم - ليظلّ القاسم المشترك بينهم دكتاتورية القرار بديموقراطية الإطار..! (4) ** أمريكا تسحقُ وتقتل وتعذب وتشرّد وتحتل وتتحايل باسم محاربة الإرهاب.. فليكن..!.. ولكن بماذا نصف مجازرها سوى أن تكون فكر الإرهاب الذي يبرر ذلك بشعارات الحريّة والتحرّر والمشاركة والتحضر..! ** يجد فكر الإرهاب من يُصدِّقه ويصفق له ويُصادق عليه، وفيه تختلُّ الرؤى فيصبحُ الشيخ أحمد ياسين - عليه رحمةُ الله ورضوانه - إرهابياً لا بواكي له ويختال شارون وبيريز وشالوم بوصفهم دعاة سلام..! ** وهكذا يصبح العراقيُّ الأعزل الذي يدافع عن أرضه وعرضه إرهابياً، ويتطاول بوش وتشيني ورامسفيلد ليقودوا طلائع الفتح الأمريكي المبارك، وفي هذا متأمّلٌ لمن أسقط (جهاد الطلب).. فهل هو غيرُ ما تمارسّه الولايات المتحدة؟ وهل غيرنا من يوجد فيه من يحظرُ حتى (جهاد الدفع)..! ** إنه (فكر الإرهاب) يُعمي ويُصمّ، ويُزل ويُضلّ، ويبدو فيه (حسناً ما ليس بالحسن)..! (5) ** إن كثيرين مِمّن يتصدون للإرهاب يقعون - دون أن يعوا - في ظلال فكره، فيدعون إلى القمع والمنع، ويتفق المتناقضون على لغةِ الغِلظة مطالبين بوأد الثقافة المخالفة، وكأنها دعوة لتصفية المجتمع بكل أطيافه، (فالإسلامويون) و(العلمانيون) في مواجهةٍ محتومةٍ تهدف - في نظر كل منهما - إلى وأد الإرهاب وإنما يئدون فكر بعضهما بمنطق إلغائي يعتمد على التفسير العقدي الخاص بهما..! ** سينتهي الإرهاب وتتجذر ثقافته رغم ذلك إلا أن يعالج فكرهُ الإقصائي فلا يؤذن لفريقٍ بالسيطرة على المنابر، واتهام الآخر، والتشهير بالمخالف، وإبعاده عن دوائر الفعل والتأثير..! (6) ** أشار (ج.س.فريزر) في كتابه (الكاتب الحديث وعالمه للنصف الأول من القرن العشرين) إلى مسرحية (ستيفن سبندر) الموسومة (محاكمة قاضي) The Trial of Judge ، وفيها يظهر القاضي ليبرالياً معتدلا يقف بين الشيوعية والفاشية محاولاً تطبيق القانون بعدل وحَزْم، ورغم قربه من الفاشية وعدم ميله إلى الشيوعية فإنه لم يُرض الفاشيين الذين أرادوه أداة بأيديهم ولم يعجبهم منطقه التوسطي المحايد فعاملوه بوصفه شيوعياً فسجنوه وقتلوه، واتهمه الشيوعيون بأنه (برجوازي) مات من أجل وهم، وأنه لابد من مواجهة النار بالنار والكذب بالكذب والجريمة بالجريمة والعنف بالعنف..! (الجزء الأول ص 250/ سلسلة الألف كتاب الثاني 1994م) (7) ** عاشت (أوربا) معاناةً طويلة بسبب الاستبداد، واكتوت بنيران الدكتاتورية ثم مرُّوا بتجارب (التعددية) وتجاوزوا سوءاتها، ولأن العجلة لا تُخترع من جديد فإن قراءة الماضي كما الوعي بالحاضر كفيلان باجتثاث فكر الإرهاب متزامناً مع القضاء على الإرهابيين..! * للثقافة أوجه..!
|