من الطبيعي أن يؤدي تصدي غير المتخصصين لقضية جمع التبرعات إلى إحداث اختلالات معينة وسيادة أفكار وتصورات مغلوطة. ومن ذلك مقاييس نجاح حملات التبرع والتي يصممها البعض ويفصلها حسب واقع الحال. فالعبرة دائماً بحجم المبلغ الذي تم جمعه دفترياً أو على الورق أياً كان حجمه لا بالذي تم تحصيله فعلاً، وليست بعدد الأشخاص الذين اقتنعوا بهذه الحملة وأثرت فيهم وجعلتهم يتخذون قرارهم بالتبرع، ولا بالحد الأدنى الذي يجب جمعه، ومتى نقص عن ذلك كان هذا إخفاقاً للحملة، ولا بالسقف الذي ينبغي الوصول إليه. ومن يتابع الحملات السابقة يجد أن ما يقارب ثلثي المبالغ التي تم جمعها آتية من أشخاص قلائل لا يتجاوز عددهم العشرة قد حزموا أمرهم قبل بدء الحملة. وبالتالي فهم ليسوا مستهدفين أصلا بالحملة بل هم راعون لها ومشاركون فيها. والمقياس الأكثر حيادية هو ذلك الذي يأخذ في الاعتبار توزيع التبرعات على المتبرعين، لأن ذلك يعطي مؤشراً حول اقتناع الجمهور بالحملة من عدمه. ولا يعد أيضا نجاحاً إن تمكنا من جمع مائة مليون في حين انه يمكننا جمع مائة وخمسين مليوناً فيما لو استخدمنا وسائل أفضل. وينبغي أن لا تختزل أهداف هذه الحملات في مجرد جمع التبرعات المالية وإنما هي أوسع من ذلك، فهي تهدف إلى إحداث تغيرات فكرية في أذهان الناس تجاه من جمعت لهم التبرعات سواء كانوا أشخاصاً حقيقيين أو اعتباريين أو قضايا معينة. ولا يتأتى هذا إلا بالمقدرة على إقناع جمهور الناس -وبخاصة المترددين منهم- بضرورة التبرع وجدواه، منطلقين في ذلك من الحوافز التي تحفزهم على التبرع والعطاء، الأمر الذي يوفر قوة الدفع الذاتية لاستمرار التبرعات وتدفقها. وفي قضية الساعة وهم المتضررون من زلزال شرق آسيا فإن هذا المفهوم يأخذ مكان الصدارة. ذلك أن دولاً ومناطق بأكملها وملايين البشر بحاجة إلى إعادة إعمار وتأهيل. وهذه عملية تتطلب عشرات السنين ومليارات الدولارات ومؤسسات دائمة وممولين دائمين خاصة في ظل وجود التنافس الكبير بين القيم والمبادئ والأخلاق السائدة في العالم اليوم والذي اتخذ من منطقة الزلزال ساحة له. يعزز هذا التوجه وجود الحاجة لبناء ثقافة التبرع لدى المجتمع لا سيما وأن التبرعات أصبح ينظر إليها على أنها أحد مصادر التمويل المؤقتة أو الموسمية، وفي أحيان أخرى الدائمة لبعض المؤسسات العامة والجمعيات الخيرية مثل الجامعات والمستشفيات وجمعيات النفع العام. ويعين بناء هذه الثقافة في جعل ممارسة التبرع من الممارسات اليومية التي يمارسها الأشخاص بصفة دائمة، ويساعد على توسيع مفهوم التبرع لدى المجتمع ليشمل إضافة للتبرعات المادية التبرع بالؤقت والجهد والخبرة. فكم يكون مناسباً لو تبرع مستشفى خاص بعلاج مجموعة من المرضى المحتاجين -وفي حالتنا هذه- التبرع بعلاج مجموعة من جرحى الزلزال، أو تكفلت مؤسسة خيرية أو من الأثرياء بكفالة أيتام ورعايتهم حتى يصبحوا قادرين على إعالة أنفسهم، أو أعطت الجامعات -سواء الحكومية أو الأهلية- منحاً دراسية لمن تسببت الكارثة في إعاقته عن تعليمه الجامعي، وسيكون جميلاً جداً لو تضافرت جهود البنوك المحلية وأعلنت عن منحها قروضاً صغيرة ميسرة دون فوائد على غرار ما يسمى (micro credit) لمن ذهب رأسماله وبحاجة إلى المال لأن يبدأ في تكوين مشروع صغير يوفر له مورد رزق. والأمثلة التي يمكن إيرادها في هذا السياق أكثر من أن تحصى. وكل ما يعوزنا هو الابتكار والتجديد في مجال التبرعات ومحاولة التخلص أو التحرر من القوالب النمطية. ولا يمكن تحقيق الكفاءة في جمع التبرعات، وبناء الثقافة الخاصة بها إلا في ظل الرجوع إلى الأسس العلمية والتعامل معها بقدر من الحرفية والمهنية والتي يمكن بواسطتها الحكم على الأداء بحيادية تامة.
|