عرفت ما تعنيه الدكان لأصحابها ولمن يتعاملون معها، عندما استاجر والدي - رحمه الله-، دكاناً في سوق العياشة، لتكون مركازاً يلتقي فيه بعملائه من الراغبين في تعمير أو ترميم منازلهم، لم يجلس والدي داخل الدكان سوى مرات قلائل، كان مجلسه دائماً أمامها، وكان يأتي في أوقات محددة ويذهب كذلك في أوقات محددة، وكنت أتناوب الجلوس داخل الدكان، مع أخي الأكبر، في ذلك الوقت كان القرش شحيحاً، كنا نبيع على الفلاحين وبسطاء الناس بالدين، أحياناً يعود لنا الدين، وأحياناً يتعسر، لكننا في كافة الأحوال لم نكن نلح على أحد.. كانت وصية الوالد أن نعطي، والقادر سوف يسدد والمعسر لن يعود، سوف يغلبه الحياء ولن يتوقف أمام الدكان في مقبل أيامه، إلا ليسدد ما عليه من الدين!. وبفضل هذه الوصية كان الوالد يرفد الدكان بين حين وحين بالمزيد من البضائع، ولأنّ جبال الكحل تفنيها المراود، فقد أخذت موجودات الدكان تتناقص، حتى عجزت مواردها عن دفع أجرتها السنوية، التي يحين أوانها مثل كل الدكاكين في سوق العياشة وفي الأسواق المجاورة في الأول من محرم!.. ولكي أكون واقعياً فقد كنت اعتبر كل ما يدخل الدكان ربحاً، فكنت أقنع نفسي يومياً بشراء المزيد من الطوابع والمناظر الطبيعية وفي فترة الكساد، كنت أشغل وقتي بكتابة الرسائل، التي تخرج من الدكان كل يوم وتطير إلى كافة الدول العربية، وكل رسالة كانت تحمل كمّاً لا يستهان به من الغرام والسلام والكلام، ومعها كميات من الطوابع والصور، ولا يمضي وقت حتى تهلّ الردود، وعندما كثرت الرسائل استأجرت صندوقاً لتلقي الرسائل البريدية، وإمعاناً في الهروب من الدكان، كنت أذهب يومياً إلى البريد لأخذ الرسائل هذه الهواية العجيبة، كانت تستنزف موارد الدكان، لقد وجدت نفسي دون أن أدري متضامناً مع الفلاحين وغيرهم من بسطاء الناس على استنزاف الدكان، حتى أعلنت إفلاسها، وجعلت الوالد يقتنع بعد صبر طويل، دام أكثر من ثلاثة أعوام، أن الجلوس على المقهى أوفر، وأكثر متعة من الجلوس أمام الدكان!. ماذا تمثل الدكان لدى أهل المدينة؟.. إنها كالسكن تمثل الكثير، فهي الرزق والأمان والأصدقاء.. كان صاحب الدكان يرفع شعار: (غلبونا بالفلوس وغلبناهم بالجلوس!)، لذلك لم يكن مدخل الدكان عادياً، كانت كافة الدكاكين - البقالات بالذات - يصعد إليها، ولا يصعد إليها إلا صاحبها أو أبناؤه أو الأصدقاء الذين يتناولون معه الفطور، أو (تلبيبة) الضحى، التي تتكون من الشريك والجبين والزيتون والحلاوة الطحينية والشاي. وكان صاحب الدكان يفتحها مع تباشير الصباح، ولا يغلقها إلا مع صلاة العشاء، وكان أصحاب الدكاكين الكبيرة يأتيهم الطعام من المنازل في أطباق من النحاس أو الألمنيوم، أما أصحاب الدكاكين الصغيرة، التي لا تضم غير أصحابها، فقد كانوا يتناولون غذاءهم في سوق الطباخة، أو مما تحتويه الدكان من الأرزاق، لم يكن أحد يغلق دكانه إلا في الموعد المحدد، أما إذا أراد البقال الذهاب إلى التاجر أو المنزل، لظرف قاهر، فإنه يضع قطعة سميكة من القماش، تغطي واجهة الدكاكين، ليذهب ويعود من مشواره، دون أن يفقد شيئاً من موجوداتها، فالأمان كان يبسط ظلَّه على كافة المحلات، فلم تكن هناك أقفال ولا أبواب حديدية ولا أجراس مربوطة بالدفاع المدني!!. كان البائع يتفاءل بأول زبون يقف أمام دكانه، فلا يدعه يذهب إلا راضياً، فقد كانت البيعة الأولى فال حسن، حتى لو كانت بثمن التكلفة، وكافة أصحاب الدكاكين كانوا ينظرون في الصباح الباكر بحنو إلى جيرانهم، وهم يبدؤون صباحهم بإرسال السلام على بعضهم، وهناك من يمر على جاره قبل أن يفتح دكانه، وهناك من يرسل زبوناً إلى جارٍ لاحظ أنه منذ فتح دكانه لم يبع شيئاً، مدعياً أن ما يريده الزبون موجود عند جاره، فالاستفتاح أو البيع بعد فتح الدكان، في ظن الجميع أنه سيجعل العجلة تدور بشكل اعتيادي، أما لو جاء الضحى ولم يبع أحد البقالين شيئاً، فإن القلق سوف يدخل إلى نفسه، القلق على البيت والقلق على حقوق التجار، الذين يمرون في أوقات محددة، لأخذ حقوقهم، أو تسجيل طلبات جديدة!.
|