Sunday 2nd January,200511784العددالأحد 21 ,ذو القعدة 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "وَرّاق الجزيرة"

حدود جزيرة العربحدود جزيرة العرب

- تقول المعاجم العربية عن الجزيرة: (أصلها من قولك جزرت الشيء إذا قطعته)(1) ومنه أُخذت كلمة جزار لأنه يُقطّع الذبيحة ويفصل بعضها عن بعض، وتقول المعاجم اللغوية:
(سميت الجزيرة جزيرة لانقطاعها)(2) وبهذا لايلزم أن تكون الجزيرة هي المحاطة بالبحار، بل تشمل كل ما جُزر، العرب عندما دخلوا الأندلس وجدوا أرضا خضراء تختلف عما حولها سموها (الجزيرة الخضراء)، يقول الزاوي في مختار القاموس: (الجزيرة الخضراء بالأندلس أرض لا يحيط بها ماء)(3) ويقول ياقوت:(مدينة مشهورة بالأندلس... لا يحيط بها البحر كما تكون الجزائر)(4) وفي ترتيب القاموس قال: (الجزيرة موضع باليمامة)(5) وفي كتاب معجم البلدان:(جزيرة عكاظ حرّة إلى جنب عكاظ)(6)، ومعلوم أن اليمامة وعكاظ منطقتان داخليتان، و(جزيرة العرب) الواردة في حديث إخراج غير المسلمين هي: أرض مختلفة عما حولها، فالأرض جل إلا مكة المكرمة المحرمة ولهذا تُعتبر جزيرة.
- الرسول عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلم، لايقول شيئا ويقصد شيئاً إلا بقرينة، فالرسول عليه السلام يقول (جزيرة العرب) لا يقصد (شبه الجزيرة العربية)، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام أول من قال تركيبة: (جزيرة العرب)(7) فهذا يعني دلالة شرعية فتُؤخذ جملة (جزيرة العرب) شرعاً ذكرت ذلك لتوضيح الفرق بين (بلاد العرب) و(جزيرة العرب) ف(بلاد العرب) مصطلح قديم قالت به الحضارات السابقة ومفهوم (جزيرة العرب) مصطلح شرعي، ويختلف عن هذين مصطلح (شبه جزيرة العرب)، معلوم جغرافياً أن الجزيرة هي: الأرض التي تحيط بها البحار من جميع الجهات الأربع، واللبس جاء نتيجة الخلط بين المفاهيم (جزيرة.. بلاد.. شبه جزيرة).
-الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن هدّد الناس (مشركي مكة) قال برسالته لقريش (أمرت بأن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله...) فعندما حكم مكة الرسولُ عليه الصلاة والسلام قال: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما)(8) وقد أوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعده المؤكد بنون التوكيد (لأخرجن)، ولا يجوز أن نحمل القول على غير معناه فنقول إن الرسول لم يُخرج يهود اليمن ونصارى نجران ومجوس هجر من جزيرة العرب وندين بهذا القول رسول الهدى الذي قال: (لأخرجن) -حاشاه- بل إن الرسول أوفى بوعده وأخرج اليهود والنصارى، وفي الأيام الأخيرة لرسول الله أوصى بأن يخرجوا المشركين من جزيرة العرب كما في صحيح البخاري ومسلم، وقال النبي: لإن عشت لأخرج المشركين. وتنفيذا لأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أخرج الخليفة الثاني يهود نجران من جزيرة العرب.
وقد أخذ رسول الله الجزية على يهود اليمن في رسالة رسول الله لمعاوية: (... على كل حالم ديناراً أو عدل ذلك من المعافر وأن لا يُفتن يهودي عن يهوديته)(9) ونصارى نجران وافقوا على دفع الجزية قبل المباهلة وكذا دفع مجوس هجر الجزية للعلاء بن الحضرمي (10) مندوب رسول الله، وتسليم غير المسلمين الجزية للمسلمين يعني أن الإسلام قوي وأن باستطاعة الرسول عليه السلام إخراجهم من شبه جزيرة العرب، ولو قلنا: إن شبه جزيرة العرب هي: جزيرة العرب لكان ذلك مأخذاً على الرسول وعلى دولة الإسلام القوية التي فتحت فارس وغلبت الروم ومع هذا ما تزال دولة الإسلام عاجزة عن إخراج يهود اليمن، لكن المقصود من (جزيرة العرب): مكة المكرمة المُحرمة والمختلفة عما حولها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: (إن مكة حرام حرمها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ووضع هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار) ونزول آية نجاسة المشركين حدّدت تحريم مكة فقط، لهذا تُعتبرمكة جزيرة لأنها محاطة من جميع جهاتها بالجبل، وفي لسان العرب أن مالكا بن أنس رضي الله عنه حدّد جزيرة العرب بمكان مُحدد فقد قال: (أراد بجزيرة العرب المدينة نفسها)(11) ولو قلنا إن مالكا يقصد المدينة المنورة لصارت مكة المكرمة ليست من جزيرة العرب وجاز لغير المسلمين دخولها، لكن المدينة اسم جنس يقصد مالك بلدة مكة، ومكة مدينة المدائن وأم القرى قديماً وحديثاً.
ومكة دار للعرب يقول ابن كثير في البداية والنهاية: (عدنان جد عرب الحجاز) (12) فنسبة الجزيرة للعرب جاءت من أصل عروبة سكان مكة (العرب المستعربة) وهذه النسبة من علم وبلاغة الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلاغته عليه السلام ليست مستغربة وهو أبلغ العرب من ذلك قوله: (لا تقوم الساعة حتى تعود بلاد العرب مروجا وأنهارا) كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد، ولم يقل هنا جزيرة العرب (مكة) التي بواد غير ذي زرع، ومن البلاغات الملفتة للنظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل لأخرجن أو أخرجوا يهود اليمن ونصارى نجران من جزيرة العرب فلم ترد الفئتان بالأحاديث إلا في أخذ الجزية في كتب السيرة، وليس هنا إغفال أو تجاهل لفئتين كبيرتين من غير المسلمين في شبه الجزيرة العربية لكنها بلاغة نبوية لأن الفئتين ليستا بجزيرة العرب.
- جاء وهم تحديد (جزيرة العرب) بالحجاز من استقراء حديث (... أخرجوا يهود الحجاز من جزيرة العرب) والقسم الثاني من العلماء أضاف التخوم تغليباً، والقسم الثالث من العلماء وبالذات بعض المعاصرين قالوا بأن جزيرة العرب هي شبه الجزيرة العربية، الرد على القسم الثاني ينسحب تلقائيا على القسم الثالث ونأخذ الرد من حديث قال أبو داود قُرى على الحارث بن مسكين وأنا شاهد أخبرك أشهب بن عبدالعزيز، قال: قال مالك: (... أجلى عمر أهل نجران ولم يجلوا من تيماء لأنها ليست من بلاد العرب)(13) تيماء من تخوم الحجاز وهي هنا ليست من بلاد العرب، وفي الحديث المتفق عليه فيه عن يهود خيبر: (... فأقروا حتى أجلاهم عمر في إمارته إلى تيماء...) ومثال موثق في الأحاديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام صالح يهود فدك على نصف الثمر ونصف الأرض، والمعنى أن ليهود فدك نصف الأرض وفدك (شمال المدينة) من بلاد العرب ومن تخوم الحجاز.
أما الرد على القسم الأول فنأخذه مما سبق ومن تضعيف الإمام أحمد لسند الأثر الذي قاله يعقوب بن محمد سألت المغيرة...، وكذلك نأخذ الرد من إخراج المدينة المنورة من جزيرة العرب.
- في ظني أن المتأخرين بعد العهد الراشد هم الذين جعلوا المدينة المنورة من ضمن جزيرة العرب لكونها تضم قبر أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام ولقوله: (مابين حجرتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ولكن القرائن النافية تجعل الباحث يتريث فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يخرج المتهودين من يثرب، تقول الرواية: (إن ابن عباس قال: كانت تكون المرأة مقلاتا (التي لا يعيش لها ولد) فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ....الآية} وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد. وعن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلي قريب، قال عمر: اللهم اشهد، ثم تلا {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(14) وبعد الفتوحات الإسلامية جاءت الأقليات غير الإسلامية للمدينة المنورة بشكل مَوالٍ، غير مسلمين، كالمجوس، وسماح الصحابة لهم يعني أن المدينة المنورة ليست من جزيرة العرب، وفي سيرة الرسول عليه السلام أنه توفي ودرعه مرهون عند يهودي بالمدينة، وضم المدينة المنورة لجزيرة العرب (مكة المكرمة) احتياطاً.
- استشكل الأمر على الإمام أبي حنيفة الذي جوّز دخول غير المسلمين بشروط، وقال: (لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها لكنهم لا يستوطنون، وأما الحجاز فلهم الدخول إليه والتصرف فيه والإقامة بقدر قضاء حوائجهم)(15) وفيما يظهر أن أبا حنيفة جوّز دخولهم الحجاز ليتوافق نص الإخراج والواقع حيث إن غير المسلمين من يهود، ومجوس، ونصارى في يثرب، وفي تيماء يهود.
- رحم الله الإمام أبا نيفة الباحث عن التوافق، وعفا الله عن المحتاطين الذين أدخلوا المدينة ضمن جزيرة العرب، إسلامنا نقلي وليس عقلي ولسنا بحاجة لنحتاط أو نوفّق، ولا ينبغي أن نأخذ بأثر أثبت معنى جزيرة العرب، قال يعقوب بن محمد: سألت المغيرة بن عبدالرحمن عن جزيرة العرب فقال هي: مكة والمدينة واليمامة واليمن) وإذا رجعنا إلى السند نجد أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال عن يعقوب بن محمد: (ليس بشيء) وقال أبو داود عن المغيرة: (ضعيف) فهذا الأثر الذي كان مرجعاً للبعض سنده ضعيف: أثر أوهم علماء تقويم البلدان بأن المقصود بجزيرة العرب هي: شبه الجزيرة العربية، وأخذ الفقهاء عن المتخصصين المتوهمين، عليه ينبغي أن يسعنا ما وسع السلف، وألا نكون راشدين أكثر من رُشد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين. فالله تعالى حرم مكة المكرمة يوم أن خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ولم يُحرم المدينة المنورة، أو القدس، أو أي بقعة أخرى.
- هناك إشكالية عند البعض وهي أن حصر جزيرة العرب بمكة المكرمة يجوّز دخول غير المسلمين لشبه الجزيرة العربية، وقد يصل التشاؤم غير المبرر إلى أن يبنوا كنائس في ديارنا، كما أن القول المتعارف عليه بتحديد جزيرة العرب بالحجاز أو بشبه الجزيرة العربية ليس تشاؤماً بل واقع قد أزهق أرواح بعض شبابنا ذوي الغيرة الزائدة والذين ينفذون نصا شرعياً حسب فهمهم بأن جزيرة العرب هي شبه الجزيرة العربية وأزهقوا أرواحا بريئة وروعوا الآمنين. الخوف في الحالتين قائم لكنه في الحالة الأخيرة واقع، وللتوسط فسدا للذريعة يمكن إصدار فتوى من السادة العلماء ينفذها ولي الأمر تُحدد جزيرة العرب بالحاجز أو بشبه الجزيرة العربية لجلب المصلحة ودرء المفسدة، فالمعروف أن سد الذريعة لا يقوم على نص شرعي وقد يخالف النصوص، يقول الدكتور الريسوني: (أصل سد الذريعة الذي يرجع حاصله إلى درء المفاسد وتظهر مصلحية هذا الأصل بقوة في كونه يسمح بمنع ماهو مباح بالنص)(16) الله سبحانه وتعالى نهانا عن مسبة الأصنام إذا كان عبّاد الأصنام قد يسبون الله عدوانا بغير علم، لهذا فتحريم بلادنا على غير المسلمين للمصلحة يجوز من باب سد الذريعة.
الكاتب - صالح بن عبدالله العييري
بريدة
هامش:
1- أبو هلال العسكري (التلخيص) صفحة 455 .
2- أبو الحسين أحمد بن فارس (معجم مقاييس اللغة) صفحة 456 .
3- الطاهر أحمد الزاوي (مختار القاموس) صفحة 103 .
4- ياقوت الحموي (معجم البلدان) الجزء الثاني. صفحة 136 .
5- الطاهر أحمد الزاوي (ترتيب القاموس) الجزء الأول. صفحة 486 .
6- ياقوت الحموي (معجم البلدان) الجزء الثاني. صفحة 138 .
7- أمين مدني (التاريخ العربي وجغرافيته) صفحة 34 .
8- صحيح مسلم.
9- البلاذري (فتح البلدان) صفحة 82 .
10- المصدر السابق صفحة 75 .
11- ابن منظور (لسان العرب) الجزء الرابع. صفحة 134 .
12- ابن كثير (البداية والنهاية) الجزء الثاني. صفحة 193 .
13- في بعض الأحاديث يهود نجران فقد يكون في الأمر تغليب حيث خص الرسول أهل نجران من المعاصرين له من أحفاد أصحاب الأخدود الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ومنهم متختم الذهب والمجلود حداً لشربه الخمر وفي الحديث (شر قبيلتين في العرب نجران وبنو تغلب) أو ما في معناه، وقد يكون في مكة (جزيرة العرب) يهود من نجران أجلاهم عمر تنفيذا لحديث أخرجوا...
14- د. وهبة الزحيلي (آثار الحرب) صفحة 80 .
15- د. عبدالوهاب الطريري صحيفة النخبة. عدد 304 نقلا عن (أحكام أهل الذمة الجزء الأول صفحة 188).
16- د. الريسوني (الاجتهاد) صفحة 32

صالح بن عبدالله العييري / بريدة

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved