* كتب الزميل - سراج الدين إبراهيم:
مملكتنا الفتية.. في سباق مستمر مع الزمن.. ففي كل ميدان من ميادين الحياة عمل وإنتاج.. وفي كل حقل نجد المشاريع الضخمة تحكي للأجيال نهضتنا.. في كل مرفق من مرافق الحياة العامة نحس بالجديد ونلمس التجديد.. ذلك كله وأكثر بفضل السياسة الحكيمة التي تنتهجها حكومتنا الرشيدة.. وبفضل الجهود الكبيرة المتضافرة في البناء والمبذولة في سبيل رفعة هذا الوطن العزيز.
إن النهضة الجبارة والخطوات الدافقة التي تعيشها بلادنا تحتاج منا أن نعد شبابنا إعداداً كبيراً وعلى مستوى تلك النهضة.. والتي لا بد لها من العقل الجبار والتوجيه الحسن والخلق القويم والساعد القوي، والإيمان الكامل بأن للأوطان حقاً، على بنيها ودَيناً مستحقاً.. وأن كل جيل لا بد أن يترك أثراً ويسطر أحرفاً من نور في سجل التاريخ.. إما أن تحسب له أو عليه..
وقفت في الأسبوع الماضي أمام تلك البناية الضخمة، بناية المعهد الملكي الفني وقد شعرت بأنني أمام خط فاصل بين ماض وحاضر، ماض.. له نظرات خاصة في الصناعة والصناعيين.. وحاضر له نظرات ذات أبعاد حديثة.. أدركت ما دس لها في مسيرتها، وعطَّلها ردحاً من الزمن عن اللحاق بالركب الحضاري المتأصل فيها، فمسحت من على جبينها غبار الماضي، وكشفت من أراد لها أن تحيد عن الطريق، طريق التقدم.. والازدهار فأبت إلا أن تضع قدمها على أعتاب ذلك التقدم وأن تطرق بيد قوية وسواعد فتية على أبوابه وتلجها.. فاتحة بذلك صفحة جديدة في مجال البناء والتطور، وهذه النظرة الواقعية، والتي أدركها المسئولون أيما إدراك وعلى رأسهم صاحب الجلالة الملك فيصل رائد هذه البلاد، والمخطط الأول لنهضتها، وراعي مسيرتها، هذه النظرة ترمي إلى أهداف بعيدة، لذا فإن أول هدية في هذا المجال كانت تلك البناية الضخمة، التي كلَّفت ما يربو على عشرين مليوناً من الريالات، أعدت وجهزت بأحدث الأجهزة لإعداد فنيين في كل مجال وتخصص، لذا فإن ما بالمعهد من أجهزة يقارب الواحد منها خمسين ألف ريال هذه الأجهزة لا توجد في أكبر الجامعات والمعاهد العليا حاليا..!
من هنا ندرك تماماً أن النظرة والخطة ليستا ترميان إلى نواح عددية.. تتلقفها الصحف والمجلات ومختلف وسائل الإعلام لتغطية الاستهلاك المحلي فقط، بل تتجاوزه وتتعداه، هي بحق إدراك لحقيقة مخططات كبيرة وضعت بوعي فائق، وخطط للحاق بها بعناية وأرسل السهم ليصيدها في الكبد، لذا فقد كان البذل بسخاء والعطاء عن طيب أسخى.. والرعاية أبوية لا تطبق جفناً إلا عن اطمئنان على أن الأمور قد استكملت ما يجب أن تستكمله لتسير بعون الله وتوفيقه إلى ما أريد لها.
وهذا المعهد كما أسلفت هو فاتحة خير في مجال الإعداد للنهضة الجبارة التي أردناها لأنفسنا لتحقيق الخير والمنفعة لهذا الوطن.
أول ما واجهني حينما دخلت تلك البناية العظيمة وما لفت نظري تلك القبة العالية، والمفخرة الشاخصة في تبديد المستحيل، بالتسلح بالعلم، والتي تابعتها عيناي بتدبر، وهي شامخة، وكأنها تحكي للواقف تحت ظلالها المتمددة قصة المجد، وعلوه وعظمته، وفي تحد للزمن، وبعد لحظة أعدت رأسي إلى مكانه والتفت يميناً وشمالاً، وقد جذبتني مناظر النشاط الجميلة في مختلف صورها وتنوعاتها من صحف حائطية ومعارض مصغرة، لبعض الأدوات والقوالب الحديدية، وبعد ذلك سرحت بعيني بعيداً إلى الداخل، وتبعتني قدماي في خطوات متفاوتة دون إحساس وكأنها تسير على هواها، وعيناي على هوى آخر، سرحت بعيداً.. بعيداً إلى الماضي استصرخه أن يصحو ولو لبرهة ليرى بنفسه ما أرى وليسمع ما أسمع.. وبما أنني أعلم أن لا أحد يريد لنفسه أن ينهزم مطلقاً فإنني أيقنت أن الماضي لن يستمع إلى ما أقول.. ولن يفتح عينه لترى ما أراه ماثلاً في بروز ناطق وتوثب.. وعليه قررت أن أحثو على الماضي حفنة من تراب حتى تزيده تواريا.. وتكون في أذنيه وقراً.. وأفتح أول صفحات ألبوم التقدم لكل نفس تزيدها غبطة وسروراً.. كل لبنة نصنعها.. ونضعها في بناء نهضتنا الحديثة بتماسك موثق العرى.. بإعداد جيل جديد من الشباب لتحمل مسئولياته كاملة افتتح المعهد في عام 1388 - 1389هـ وذلك لتزويد البلاد بما تحتاج إليه من فنيين في شتى المجالات وقد روعيت عند افتتاحه عدة نواح أولها أن يكون الملتحق به في حالة استقرار تام تمكنه من بذل جهده الذي اختاره لنفسه.. ولمستقبل حياته العملية، ولذا فإن إزالة عوامل عرقلة هذا الاستقطاب أزيلت فعلاً وعملياً بالمبلغ الذي يدفع للطالب وقدره 200 ريال شهري.. وأحيط الطالب الدارس في هذا المعهد بكل عوامل الراحة التي تمكِّنه من أداء واجباته بدقة ونشاط وحيوية لما للإنسان من علاقة بالآلة تتمثَّل في ارتباط التعاون بينهما من أجل إنتاج أوفر.
خصصت لإدارة المعهد هيئة إدارية قديرة من خيرة شباب هذه البلاد المزوَّدين بأعلى المؤهلات العلمية، وأرفع الكفاءات العملية، وجهز بأضخم الآلات الحديثة.
فمدير المعهد هو المهندس محمود حامد المطبقاني، وهناك وكيل للمدير يشرف على الشئون الإدارية، ورئيس للأقسام وضع للإشراف على الطلبة أثناء الدراسة المهنية بالورش وعلى سير تنفيذ التمارين والوظائف التي تعطى الطلاب كواجبات مدرسية كما يشرف على الطلبة أثناء الدراسة المهنية بالورش وكراسات الإعداد والتحضير للمواد العلمية والعملية، علاوة على أن هنالك مدرس أول يشرف على المواد النظرية وتوزيعها على المدرسين، ومتابعة كراسات التحضير لجميع المدرسين العمليين، وبالمعهد قسم للمحاسبة والشؤون المالية.
ولا يفوتنا أن نذكر أن بالمعهد قسماً للإشراف الاجتماعي متكامل التنظيمات دقيق المحافظة يشرف عليه الأخصائي الاجتماعي الأستاذ أحمد الماجد.. ويقوم الأخصائي الاجتماعي بحل مشاكل الطلاب وتوجيههم، وكذلك قسم للإشراف الرياضي.
يشترط في طالب الالتحاق أن يكون حائزاً على الشهادة المتوسطة وألا يزيد عمره عن عشرين سنة، وأن يكون خالياً من العاهات المؤثِّرة في الحياة العملية، ولديه شهادات بحسن السير والسلوك وألا يكون موظفاً بالدولة، وأن يكون سعودي الجنسية، علماً بأن النظرة الملكية السامية شملت قبول أبناء الدول العربية والإسلامية الأخرى، بنسبة عشرة في المائة.يتقاضى الطالب 200 ريال شهرياً وتصرف له الكتب المدرسية مجاناً، وأدوات الرسم اللازمة، يصرف له حذاء من نوع خاص وبدلة خاصة للتدريب، ودخول الورش للتطبيق، والممارسة العملية، والإعداد الفني.
وبهذه السواعد الفتية تقوم النهضة الصناعية على أسس سليمة ثابتة متوازية بين الإنتاج والاحتياج، القائم على الدراسة والعلم، وقد التحق به في العام (88-89) (90) طالباً والعام الثاني 100 والثالث 130 والرابع 154 -. ويجدر بنا هنا أن نطلع القارئ على أن هذه هي السنة الرابعة - والأقسام التي تعمل حالياً بالمعهد في شتى أقسامه هي:- قسم لهندسة السيارات وبه (82) طالباً، قسم المعادن وفيه (40) طالباً، قسم الكهرباء وبه (148) طالباً، قسم الراديو والتلفزيون وبه (30) طالباً، قسم الرسم المعماري وبه (10) طلاب.
كما أن المعهد مجهز بآلات ومعدات لحرف عديدة كالنجارة والطباعة، والسباكة وصناعة الأحذية، وصياغة الذهب والفضة والخياطة، وأعمال البلاد والطوب والرخام وسوف تفتح هذه الأقسام عند الحاجة إليها.
تخرَّج من المعهد (262) خريجاً في مختلف الصناعات والفنون وزعوا على المصالح الحكومية التالية: وزارة الدفاع، وزارة الداخلية، وزارة الإعلام، الخطوط الجوية العربية السعودية.
وهم يؤدون أعمالهم على خير وجه، وتمنح للطالب شهادة دبلوم المدارس المهنية الثانوية، ولا يترك الطالب بعد التخرّج، بل يظل المعهد يلاحق متابعة خريجيه حتى يطمئن على أنهم يزاولون نفس العمل الذي تخصصوا فيه، كما أنه يطمئن في نفس الوقت على راحتهم في العمل مع غيرهم، ومدى انسجامهم وتفاعلهم مع ما يسند إليهم من مهام وأعمال. ومدة الدراسة في المعهد ثلاث سنوات.. وإن الجهاز الذي يسير دفة العمل في المعهد من خيرة شبابنا السعودي، وعدد المدرسين العاملين به (98) مدرساً سعودياً، ويوجد فقط عشرون مدرساً من الإخوة العرب، ومعظم المدرسين الوطنيين من خريجي المدارس المهنية قضوا مدة ابتعاث في الخارج تتراوح من سنتين إلى أربع سنوات وهم يؤدون واجبهم على خير وجه.
هذا عن المدرس.. أما عن الطالب فبعد أن يكون قد أمضى السنة الأولى في التدريب على جميع الحرف فإنه يمضي السنتين الأخيرتين في مجال تخصصه على أسس متينة من المعرفة والخبرة، فطالب الكهرباء يتعلّم التمديدات الكهربائية المختلفة وصيانة وإصلاح المحركات والمولدات الكهربائية وإعادة لفها - العمل في محطات الكهرباء قسم الراديو والتلفزيون وهو قسم جديد افتتح منذ عامين يتعلم فيه الطالب نظريات عمل الراديو وطرق تركيب الأجهزة وإصلاحها.ومن قسم السيارات يتعلَّم الطالب صيانة وإصلاح البنزين والديزل وإصلاح السيارات بأنواعها كهربائياً وميكانيكياً، أما في قسم المعادن فيتعلم فيه العمل على ماكينات التشغيل المختلفة كالمخارط، والمقاشط، والفرايز، ومكائن التجليخ كما أن طلاب جميع الأقسام الأربعة يتدربون على طرق اللحام والأوكسجين والقصدير والبرادة وأعمال الصفيح.إن الطالب ما يكاد يتخرَّج حتى تتلقاه الأيدي من كل جهة وأهم هذه الجهات وزارة الدفاع والطيران وهي بحاجة إلى جميع الخريجين، حيث يدفع للطالب أكثر من ألف ريال، وكذلك فإن الخطوط السعودية بحاجة ماسة لهؤلاء الفنيين، حيث ترسلهم إلى أمريكا لزيادة تخصصهم، وتمنحهم رواتب عالية بالإضافة للمؤسسات الأخرى التي تتهافت عليهم لإدارة مشاريعها ومصانعها.
للمعهد نشاط رياضي واجتماعي كبيرين، فبالمعهد مجلات وجرائد كما يخرج مجلة سنوية في حفله السنوي المعتاد، وفي مجال الرياض، فإن بالمعهد أول الفرق الكشفية، حيث حصلت على درع التفوق الكشفي لمدة ثلاث سنوات متتالية وهذا العام حصل على كأس ألعاب القوى في منطقة الرياض، من المفاجآت الكبرى في التخطيط للمستقبل افتتاح المعهد العالي للمدرسين بنفس المعهد وذلك لإمداد المدارس المهنية في المملكة بالمدرسين العمليين،
وستكون شروط القبول فيه اختيار الأوائل من خريجي المدارس المهنية الثانوية، وتتراوح الدراسة بين عامين وثلاثة أعوام
، وهناك فرص كثيرة للابتعاث، حيث تتضمن اتفاقية التعاون الفني مع الحكومة الألمانية تخصيص 25 منحة دراسية للطلاب الأوائل في المدارس المهنية الثانوية سيتم ابتعاثهم سنوياً إلى ألمانيا،
وستكون دراستهم في ألمانيا هي المرحلة الأولى من الدخول في المعهد العالي أي أنهم بعد عودتهم سيواصلون الدراسة في المعهد العالي لنيل الشهادة النهائية، وسيتولَّى المتخرّج التدريس في المعاهد المهنية لدعم النهضة الجبارة التي تعيشها المملكة في العهد الفيصلي المزدهر بالأستاذ المؤهل تأهيلاَ عالياً، وهو يعتبر مفتاح الطريق لها في المستقبل الباهر...
هذا ما شاهدناه.. ورأيناه.. في ذلك الصرح الفني المهيب مصنع الرجال والسواعد القوية البناءة لنهضة جبارة في غد ناهض يميس في التقدم.. ويفخر بالتطور في كل مرافق حياته.
|