شكل رحيل الزعيم ياسر عرفات تحدياً آخر لإسرائيل حتى وهو يموت، فإسرائيل لم تستطع منع موجات الحزن العارم التي عبّرت عن الاعتزاز الكبير الذي يكنه الشعب الفلسطيني لعرفات، بينما حاولت إسرائيل طوال السنوات الماضية عزل الزعيم عن شعبه الذي عبر أمس عن اعتزازه بقائده وملهم صموده والرجل الذي رفض الخضوع لكل تهديدات إسرائيل والقوى العظمى التي تدعمها والتي حاولت- بمختلف السبل- إثناءه عن الثوابت التي تشكل أساساً لنضال شعبه.
فقد عاش عرفات ثلاثة أعوام تحت الحصار الإسرائيلي بعد العدوان على مقر المقاطعة، حيث الرئاسة الفلسطينية، لكن هذه السنوات بكل ما تنضح به من قسوة لم تفلح في تليين مواقف الرجل، الذي يدرك أن صموده إنما هو الرسالة اليومية الأقوى لشعبه لكي يستمر في النضال دون هوادة ودون تنازل وفي خط متصاعد يظهر في الجانب الآخر عجز إسرائيل على التعامل مع هكذا صمود.
واشتد الاستهداف الإسرائيلي الأمريكي لعرفات بصفة خاصة منذ رفضه كامب ديفيد الثانية عام 2000 بما فيها من تنازلات تناولت بصفة خاصة الوضع في القدس المحتلة واللاجئين، ومنذ ذلك الوقت ووسط ظروف إقليمية ضاغطة من قبل القوة العظمى تواصلت آليات الحصار من خلال تنسيق إسرائيلي أمريكي واسع النطاق وتعددت صور الضغوط من محاولات إسقاط عرفات عن المشهد العام للتسوية في فلسطين إلى التهديد بقتله، وهو أمر لا يمكن استبعاده في ظل الظروف الغامضة التي أحاطت بمرض عرفات الأخير.
لقد ترك أبوعمار إرثاً نضالياً وتجربة عملية في الصمود ستعين كثيراً هذا الشعب البطل في تعاطيه اليومي مع السعي إلى التحرر والانعتاق من الاحتلال، وبالقدر الذي حاولت به إسرائيل التفريق بين القائد وشعبه بالتهديد والوعيد والجزرة والعصا والضغوط الدولية والإقليمية، فإن القوة المضادة لهذا التآمر المستمر عززت من الموقف الفلسطيني من خلال الدفع إلى الساحة بآليات جديدة من النضال الذي يتمحور بصفة خاصة حول الصمود في أبهى صوره.
وفي المنحى التصاعدي لهذا النضال فإن تجربة عرفات تشكل محوراً أساسياً يغذي هذا التوجه التصاعدي، خصوصاً إذا نظرنا الى الحقيقة القائلة ان النضال هو السمة الأساسية لهذا الشعب، من باب ان لكل شعب سمة يتميز بها عن غيره، وبالقدر الذي تركز فيه القيادات على تطلعات الشعوب فإن هذه الشعوب تستجيب وتتفاعل مع التوجيهات خصوصاً اذا كانت هذه التوجيهات هي تجسيد لمبادئ عالية يتم ممارستها على أرض الواقع، وقد كانت دروس عرفات في حصار (المقاطعة) وفي حصار بيروت أمثلة طيبة لتغذية ذلك النضال والحفاظ على جذوته مشتعلة.
|