لا شك أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يترك شعبه في أكثر المراحل حساسيةً، وهو أيضاً يرحل بعد خطوة وحيدة من رحلة العودة التي انطلقت مع العملية الأولى لفتح.. هذه الصورة ستبقى في ذهن أي واحدٍ منا وهو يتذكر تاريخاً يبدو اليوم بعيداً بآلياته وأساليبه عن الزمن الحاضر، رغم أن هذا التاريخ لم تنتهِ فصوله بعد.
ياسر عرفات.. أبو عمار كما عرفه لاجئو المخيمات الفلسطينية في سورية عام 1968، أتى من الكويت ورسم لشعبه صورة جديدة، بعد أن كانت تتناوب ما بين الشفقة أو الاغتراب، ومهما طالت صورة (أبو عمار) من اتهامات، لسنا بغرض معالجتها، لكنه شكّل المرحلة أو شكلته.. وإذا كان الحديث عن أخطائه حالة شائعة، فإن الأخطاء ضمن الحركة السياسية تتجاوز عادة الأشخاص، وعلى الأخص عندما يكون الوضع مشابهاً لعنف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
أبو عمار انتقل من الكويت وأتى معه رجال آخرون قُضي معظمهم اغتيالاً على يد الموساد الإسرائيلي، مثل (صلاح خلف) أبو أياد أو خليل الوزير (أبوجهاد)، كما تم تصفية آخرين يطول ذكرهم بينما بقي هو سالماً لينهي مسيرته على فراش المرض، وربما السؤال الذي يطرح نفسه لماذا كان أبو عمار خارج دائرة الاغتيال.. رغم أن العديد من الدراسات تحدثت عن محاولات قتله؟ وهل كان هذا القائد عصياً على مخططات الموساد التي استطاعت الوصول إلى تونس؟ إن هذا السؤال لا يعني تشكيكاً بقائد تاريخي للشعب الفلسطيني، بل ربما على العكس يوضح ماذا يعني غيابه اليوم، ولماذا بقي أسير المقاطعة في رام الله، رغم أن القوات الإسرائيلية وسياسة شارون كانت قادرة على طرده، على الأخص بعد أن سحبت إدارة بوش شرعية السلام من يده معتبرة أنه ليس شريكاً في هذه العملية.
المؤشر الأول لمسيرة عرفات منذ انطلاقة فتح وحتى اليوم هي عملية التوازن السياسي التي استطاع أبو عمار خلقها بشكل دقيق، والملاحظ أنه على عكس الحركات الفلسطينية التي انطلقت في أواسط الستينات لم يكن يرتكز على بناء ايديولوجي راديكالي متشدد، في الوقت الذي لم يظهر فيه على شاكلة السياسات التقليدية.
بهذا الشكل كانت فتح تنظيماً يعبر عن الواقع الاجتماعي الفلسطيني، وجعلها الأقوى على الساحة الفلسطينية رغم كافة الاتهامات بعدم وضوح رؤيتها للصراع، أو ما طرح ضد قياداتها وعلى الأخص ياسر عرفات باستئثار للسلطة داخلها، هذه البنية لفتح مكنتها في كافة المراحل من السيطرة على (منظمة التحرير الفلسطينية).
ومكّنت ياسر عرفات من الاستمرار في قيادتها، بشكل سيؤدي اليوم إلى نوع من فراغ السلطة في حال غيابه، وهذا الفراغ ليس مؤسساتياً كما يتم تصويره، بل معنوياً لأنه ينهي مرحلة من التوازن الاجتماعي الذي عبّر عنه أبو عمار. عملياً فإن التوازن السياسي لم يكن على الصعيد الداخلي الفلسطيني، ففتح كانت أيضاً، وعلى عكس باقي المنظمات، دون برنامج (ثوري) بالمعنى الشامل.. وإذا كانت فتح خاضت حروباً داخلية في الأردن ولبنان، فإنها في نفس الوقت لم تكن تملك خطوطاً حمراء بالمعنى الحقيقي في تعاطيها السياسي مع السياسات العربية بالدرجة الأولى، وكان جهازها الأمني في أدق المراحل وخلال حرب السنتين في بيروت قادراً على دعم الحركة السياسية للرئيس عرفات من خلال تأمين الدعم للدبلوماسيين العرب والأجانب، وربما تكون القصة الأشهر في هذا المجال لأبي حسن سلامة الذي اغتيل أيضاً، لكنه استطاع التعامل وبشكلٍ دقيق مع الوضع اللبناني قبيل الحرب وأثناء بدايتها بشكلٍ ناجح، أمّن لأبي عمار علاقات واسعة في مختلف الأوساط السياسية.
عملياً فإن التوازن هو الذي جعل من أبي عمار شخصاً خلافياً لأبعد الحدود، وهو الذي أمّن لحركة فتح انتشاراً واسعاً في الأوساط الاجتماعية، وخلافات حادة في الأوساط الاجتماعية، على الأخص في مسيرة الانتقال من بيروت إلى تونس، فبقدر الإجماع الذي يحققه في حركته الاجتماعية، فإنه يترك انشقاقاً واضحاً داخل النخب السياسية والثقافية، لكن هذه السياسة ضمنت في نفس الوقت عدم انتشار التيارات الجديدة على حساب حركة فتح، بل ربما على العكس فإن فتح في الأراضي الفلسطينية وبعد أوسلو كانت قادرة على التجاوب مع آليات خلقتها كل من حركتي فتح وحماس.
مما أبقاها على قمة التشكيلات السياسية والعسكرية الفلسطينية.
بالطبع فإن الرئيس الفلسطيني ليس حركة فتح، وإن كانت الصورة توحي بمثل هذا الأمر، لكنه قاد النضال الفلسطيني على شاكلة القادة التاريخيين للمنطقة، وهذا الأمر لا ينسحب عليه فقط بل على سياسات الشرق الأوسط إجمالاً التي اتسمت مراحلها المعاصرة بالخلافية الشديدة والإشكاليات العميقة. ويبدو أن المقارنة ضرورية اليوم بين حركة الفلسطينيين من الشتات نحو أرض فلسطين، وبين الحركة الصهيونية على وجه التحديد، وذلك وفق الأشكال التي اتسمت بها حركة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
أولاً - لم يكن الرئيس الفلسطيني، وحركة فتح، عند انطلاقها تملك مشروعاً سياسياً واضح المعالم إنما كانت المقاومة هي برنامجها وهدفها تحرير كامل التراب الفلسطيني، وهذا الشكل الإطلاقي في التعامل مع السياسات الدولية يظهر تراجعاً في الأهداف وصولاً لأوسلو، لكن الواقع ربما يوضح نقاطاً إضافية، فالمسيرة الفلسطينية سياسياً لم تكن تملك قراراً كاملاً على سياساتها، لأن المسألة الفلسطينية كانت وفق السياسة العربية (قضية العرب الأولى). وربما على عكس ما قام به (هرتزل) مؤسس الصهيونية، فإن التحرك الفلسطيني كان مرتبطاً بجملة المشاريع العربية وب(لاءات الخرطوم). لذلك فالتحرك الأولي للرئيس الفلسطيني لم يعبّر عن مشروع بقدر تعبيره عن طاقة شعب تستلب إرادته السياسية الأنظمة والحكومات العربية.
ثانياً - كان المشروع السياسي الفلسطيني وليد المشروعية الدولية من خلال القرار 242، ومن ثم القرار 338. بينما نشأت الحركة الصهيونية على الاتصالات السياسية وصولاً إلى إيجاد مشروع يضمن لها إنشاء دولة. وبالطبع فلم يكن مطلوباً من حركة التحرر الوطني الفلسطيني أن تبدأ كما بدأت الحركة الصهيونية، لكن الواضح أنها انتقلت داخل خانات سياسية متعددة قبل أن تبلور نوعاً من المشروع السياسي. قبل 11 أيلول كان الرئيس الفلسطيني أكثر قدرة على الحركة، لكن بعد هذا التاريخ فإن السياسة الأمريكية أصبحت تتذكر في كل عمل عسكري داخل فلسطين جرحها في برجي التجارة، وغدت التنظر إلى سياسة الاستقطاب وخلق التحولات في الشرق الأوسط نظرة شك، معتبرة أن الثقافة التي تحرك الفلسطينيين هي نفس الثقافة التي حركت وتحرك اليوم من يهاجمونها.. وهما من قناعات الولايات المتحدة، فإنها أرادت ضمن تغير الثقافي الذي تريد فرضه تصفية كافة المراحل السابقة بما فيها الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.. لكن تصفيته السياسية كانت صعبة نوعاً ما نتيجة إرث التوازن السياسي الذي خلقه على امتداد ثلاثة عقود، فكانت التصفية من خلال آلية العزل التي فرضت عليه ومنعته من الاتصال السياسي المباشر.. بهذا الشكل ظهرت السلطة أسيرة شخصه، وظهر بشكلٍ غير قادر على الاستمرار في آلية بناء التوازنات. وهو اليوم وسط مرضه لا ينهي مرحلة خاصة به، بل مرحلة تاريخية كاملة عاشها الشعب الفلسطيني منذ انتقال (أبي عمار) من الكويت إلى دمشق).
|