يروي جيل الفتيان من مواليد مقتبل الثلاثينيات قصص الرحيل المكلومة (صلاح خلف، خليل الوزير، أبو علي إياد، ومحمود عباس..) من فلسطين، حيث الروايات تتشعب حسب أماكن انطلاقها ووجهة تشردها، على صورة متناقضة من التشابه والتباين، فشتات فلسطين، توزع في جهات الأرض الأربع، وكل جهة تحمل روايتها الخاصة، على أن الجامع الأعظم لهذه الروايات، يقع في تراجيديا إغريقية، تنبض بالحسرة واللوعة والشجن. ما عُرف عن فلسطين حتى المقطع الأخير من عمر النكبة أنها كانت جامعة سلمية لجميع الأديان والطوائف، ربما لسبب يتعلق بوصية الفاروق عمر بن الخطاب، أو لسبب أعم، يقع في التسامح الفطري لما انطوت عليه سريرة العربي في التاريخ.
كان الآباء والجدات قبيل رحيل الأبناء والأحفاد يتمنطقون بمفاتيح ديارهم الفلسطينية بانتظار وعد الشرف الذي قطعه نظام عربي موجود لتوه في حاضنة الجامعة العربية.. كان الآباء يعدون على سبحات صلواتهم ما تبقى لهم من أيام، في التشرد المؤقت.. ثم ما لبثوا أن ألفوا الأيام بل والشهور والسنوات.. وأصبح من المفهوم الساخر، أن الوقت أصبح دائماً، وأن حياة المخيمات هي نمط العيش الفلسطيني الطويل، فقد أذنت الليالي الحالكات بعد مضي سبعة عشر عاماً 1965، بقصر العيش داخل الأسلاك، أن يُشّق غلاف المشيمة ليرى القادم الجديد نور مصيره، وعند الحدود بين الأردن وفلسطين!. . راح بضعة أشخاص لا يتجاوزون عدد أيام الأسبوع، يلقون بما اشتروه من قنابل على واجهة مدينة بيسان أو بصورة أدق، على دورية إسرائيلية اعتادت عمل الدورية الروتينية حول ضواحي بيسان، وكان الحدث في الأول من الشهر الأول من عام 1965م، حيث هبط رجل اسمه ياسر عرفات، قصير القامة نحيل الجسم، يوزع القنابل اليدوية بدلاً من الحلوى، وكانت هذه القنابل من النوع البدائي البسيط، تدل على بدائيتها في شريط معقود بدلاً من الحلقة المعدنية التي عادةً ما تكون إلى جانب محور القنبلة من ناحية الرأس، ويسأل أحد رفاق عرفات:
- أبهذه القنابل سوف نحرر فلسطين يا أبا عمار؟.
ويجيب أبو عمار، بعد أن ارتسمت على وجهه مسحة من عذاب.
- نعم.. هذا الشريط الذي لا يعجبك سيفجر القنبلة، وهذا سيفجر ما يغلي في الصدور.. الإنسان هو الحقيقة الأولى على طريق الهدف الكبير.
ومن شريط القنلبة الذي لا يعجب أحداً، إلى عام الهزيمة المرة في حزيران 1967، جرت مياه غزيرة في بردى والليطاني، فبعد خروج عرفات ورفاق له من سجون سورية. ثم من سجون لبنان، كان يعمل على (مدفع الهاون) خمسمائة من الرجال الذين قرروا اقتحام الأسطورة، ومع صبيحة الهزيمة المدوية، أي في الثاني عشر من حزيران 1967، كان مؤتمر فتح الصغير ينقسم إلى تيار قنوط وتيار عناد.. ورغم البلبلة التي اعترت النفوس، كان عرفات يمسك بأيدي رفاق سيصبحون جميعاً في عداد الشهداء (خليل الوزير، صلاح خلف، أبو علي إياد..) لينتقل بهم إلى خلف خطوط العدو، ما وراء النهر الذي اغتسل بمياهه سيد التسامح، مسيح هذه الأمة.
لم ييأس عرفات، رغم أهوال الاستعصاءات الذاتية، والممانعات العربية والمؤامرات الإسرائيلية والعالمية، ويذكر وليم كونت في مؤلفه (السياسات المتعلقة بالوطنية الفلسطينية)، فيقول: (في السنتين اللتين سبقتا هزيمة حزيران، فإن القوات المسلحة في الأردن ولبنان، قتلت من الفلسطينيين أثناء ذهابهم وإيابهم من وإلى الأرض المحتلة أكثر مما قتل الإسرائيليون.. ولعلنا نتذكر أن أول شهيد من شهداء الثورة الفلسطينية كان قد سقط على أيدي القوات المسلحة اللبنانية).
كان عرفات يعرف هذا، بل وأكثر منه، إلا أن الإحساس بالمسؤولية الكبيرة، ظل يدفعه إلى النداء بوحدة الصف القومي (وكل البنادق نحو العدو الصهيوني).. رغم أن الأنظمة الرسمية العربية (ربما باستثناء سورية تلك المرحلة) ظلت تقف ضد العمل الفدائي، من حيث انه سياسة توريط سابقة لظروفها وأوانها. كانت سياسات إطلاق نار على الفدائيين برصاص عربي، ثم كانت الجهود المحمومة لحصر حركات الفدائيين واقتفاء آثارهم.. الأمر الذي ضاعف من معاناة الكفاح المسلح على أكثر من صعيد، فمن جهة هناك المنظمات الفلسطينية الوافدة من إيديولوجيات حزبية عربية تأخذ على عاتقها، شرط الوصول إلى القدس (من عمان) وفي مرحلة لاحقة (من بيروت).. وكان على عرفات في منظمته الأقوى، أن يعيد الأمور إلى نصابها، وهي مكابدة شاقة، أدت فيما أدت إلى انقسام الصف الفلسطيني مع إعطاء الذرائع الرسمية العربية، في استجلاب عداء فوق عداء، وأن الفلسطينيين يريدون التدخل بالشؤون الداخلية العربية، بل ويسعون إلى إزاحتها، ثم أعطت الطفولة اليسارية لمنظمات فدائية راديكالية، ذريعة أقوى، حين نادت بسلطة (الكولوخوزات والسوفخوزات) في بلد لم يخرج من مرحلته الرعوية بعد. من جهة أخرى، فإن الرسمية العربية لم تخجل من هزيمتها المنكرة في حزيران، فعبد الناصر وحده، أراد أن يتحمل المسؤولية، ليعلن استقالته في التاسع من حزيران. أما البقية الباقية، فقد أرادت استنبات حجج ومعاذير ما أنزل الله بها من سلطان. وأكثر من ذلك، فقد راحت تعترض على شعار عرفات عن القرار الوطني الفلسطيني المستقل، مما حدا برجل من وزن ابن بيلا أن يعلق : (ليس من الضروري فقط، بل يجب على الثورة الفلسطينية أن تحافظ على استقلالية قرارها الوطني، ما دامت الحكومات العربية على ما هي عليه من الترهل والارتهان.. وحين تكون حكومات وطنية تستمع إلى صوت شعبها، فإن القرار المستقل، يكف عن استقلاليته بالاندماج الطبيعي..(. ويطرب النظام الرسمي العربي اليوم، لهذا القرار، بل هو يحمله المسؤولية في عزلة القضية الفلسطينية، وكأن هذا النظام كان في معمعات الصولات والجولات، ثم جاء هذا القرار ليقصيه عن أداء الواجب.. وحتى لو كان القرار المستقل خطأ كله، فهل يمنح هذا الخطأ، ذريعة التحلل والهروب، من أعظم صراع شهدته الأمة في تاريخها عبر القرون، هل يعطي الخطأ، حجة الاستعفاء من الصراع، وإسرائيل سادرة في ذبح الوليد والأشيب والمرأة والشجرة والحجر، دون أن تقيم وزناً، لأي نظام عربي يحمل إجازة الاستعفاء بسبب القرار الوطني المستقل. هكذا تُرك عرفات لمصيره هو وشعبه.. ومع صراخه المكبوت (يا وحدنا) ظلت الآنفة العربية فوق كوفيته، فمع (يا وحدنا) كان يصرخ (نحن شعب الجبارين) نحن (الجبل الذي لا يهزه الريح). الموت حق، وهو في أُس الإيمانية الإسلامية، وقيل إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- نهى عن البكاء في مناسبة الموت، لكن أبا عمار شيء آخر .. حين يهب حياته كلها للقدس وفلسطين، ففي أكناف القدس شعب مرابط، يقف في المقدمة منه (ختيار) لم يتزوج إلا القضية المقدسة (ختيار) أحب اسمه مع الأسماء المستعارة الأخرى. إنه محمد عبد الرحمن بن عبد الرؤوف القدوة، حامل الخمس والسبعين من عمره في الشقاء المتوّج بسجن المقاطعة، فيما يرفل أصحاب القرار من الملوك والرؤساء والقادة العرب، بحلة قشيبة من مباهج المتعة والامتياز دون لمسة من حياء. سينعيه هؤلاء جميعاً دون استثناء، كل من كان يكرهه أو يسايره، بل كل من واظب على كراهيته ولم يسأل عنه وهو حتى على فراش الموت. طويلة هي مواكب الشهداء التي قادها عرفات، لم يمت الرجل شهيداً كما ظل يتمنى طوال عمره، كذلك مضى سيف الله ابن الوليد، فلا نامت أعين الجبناء.
وبعد أن أُعلن الرحيل سنقول كلمات:
مات عرفات.. مات الرجل الذي لن يسقط من ذاكرة أمة.. مات هكذا كما يشاء قدر الله.. تركنا ومضى إلى التاريخ.
|