يصعب على المرء أن يتناول موضوعاً كموضوعنا لأنه يقوم على افتراض أن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات سيغيب إلى الأبد عن ساحة العمل السياسي، بكل ما سوف يحدثه ذلك من فراغ وما يعكسه من استحقاقات وتداعيات، تضع مجمل الحالة الفلسطينية أمام الاحتمالات المفتوحة.
فعرفات بات في الحالة الفلسطينية ركناً ثابتاً، كان من الصعب على المحللين أن ينظروا إلى مثل هذه الحالة مفترضين غيابه عنها، خاصة وأن صلاحياته تمددت لتطال كل مجالات العمل السياسي الفلسطيني بمستوياته المختلفة.
* فهو رئيس دولة فلسطين، حتى قبل أن تقوم الدولة. ورغم أن اتفاق أوسلو حرمه في نصوصه مثل هذه المكانة، إلا أنه بقي يتصرف على أنه الرئيس للدولة القادمة، والتي كان يفترض أن القدس سوف تكون عاصمتها.
* وهو رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ إعلان التأسيس الثاني للمنظمة بعد أن دخلتها الفصائل المسلحة، وباتت عنواناً للمقاومة الفلسطينية وممثلاً شرعياً ووحيداً لشعبها.
ولم يشهد تاريخ المنظمة أن نهض من ينافس عرفات على منصبه هذا، وإن كانت اللجنة التنفيذية قد شهدت خلافات احتدمت في بعض محطاتها حول حدود صلاحية رئيسها وحول آليات عمل اللجنة التنفيذية نفسها.
* وهو رئيس اللجنة المركزية لحركة فتح، بقي في هذا المنصب، منذ أن تمّ الإعلان عنه، وشهدت قيادة فتح تغيرات دراماتيكية، إذ غادرها البعض، واستشهد في صفوفها البعض الآخر، ودخل عضويتها صف جديد، لكن الثابت فيها بقي على الدوام ياسر عرفات وكان يشكل عنوان الاستقرار في الحركة، رغم ما شهدته على مرّ تاريخها الطويل من انشقاقات وخلافات ونزاعات، وصل بعضها إلى حد الاحتكام للسلاح. وبقاء عرفات في منصبه الحركي شكل في جانب منه تكريساً لمواقعه المختلفة في المؤسسة الوطنية (استتباعاً لموقع فتح ودورها بالأساس.
* وبعد أوسلو احتل عرفات، كخطوة طبيعية منصب رئيس السلطة الفلسطينية، بالانتخاب المباشر من سكان الضفة والقطاع (رغم ما حمله قانون الانتخابات آنذاك من ثغرات كبيرة) واستتباعاً لموقعه هذا، ترأس أكثر من حكومة من حكومات السلطة، كذلك ترأس مجلس أمنها القومي، وعدداً من الهيئات واللجان والمجالس الأخرى التي يصعب حصرها.
هذه المسوؤليات الكبيرة التي تولاها الرئيس عرفات، إن كانت تدل في جانب منها على الدور المميز الذي يلعبه هذا الرجل في الحالة الفلسطينية وعلى حجم الفراغ الذي يمكن أن يتركه إذا ما تأكدت المعلومات عن تدهور وضعه الصحي، وعن عجز الطب عن مداواته وإعادته إلى الحياة، فإنها تدل في الوقت نفسه على ظاهرة استثنائية من الصعب أن تتكرر في غيابه، لأن أياً من قادة فتح لن يمكنه أن يساوي عرفات في قامته السياسية، وفي نفوذه وقدرته على الإحاطة بكل المسؤوليات التي كانت ملقاة على عاتق أبو عمار.
ولعلّ أبرز دليل على صحة ما نقول تلك الواقعة المؤسفة التي شهدناها ليل الاثنين (7 - 8 -11-2004) حين أطلقت سهى عرفات من باريس نداء اتهمت فيه أبرز المرشحين للخلافة (أبو مازن وأبو علاء) بأنهم مستورثون ويرغبون في دفن عرفات حياً. وقد جاء هذا النداء ليتوج حالة من البلبلة والفوضى حول حقيقة وضع عرفات الصحي، تضاربت فيها التصريحات والتشخيصات، وبات واضحاً أن هذا كله يخفي حالة فراغ، ولم تجد فتح من بين صفوفها القيادية من هو قادر على ملئه.
ومن الدلائل الأخرى على صحة تقديرنا أن اللجنة المركزية لحركة فتح سارعت بعد سفر عرفات إلى باريس لعقد اجتماع لأعضائها، أعادت فيه تقاسم مسؤوليات الرئيس وصلاحياته. ومع ذلك وجد المسؤولون الجدد أنفسهم بحاجة إلى شرعية المؤسسة الوطنية لدعم شرعيتهم الفتحاوية.
لذلك دعا أبو مازن لعقد اجتماع للتنفيذية باعتباره أمين سرها، كما دعا أبو علاء لعقد اجتماع مجلس الوزراء (باعتباره رئيسه) ومجلس الأمن القومي (باعتباره نائباً للرئيس) كذلك دعى المجلس التشريعي للاجتماع، والتقى أبو علاء (الذي قيل إنه فوض ببعض صلاحيات الرئيس عرفات المالية) مسؤولي الفصائل في غزة. وهذه كلها خطوات أريد منها تأكيد شرعية المسؤوليات الجديدة، ونيل موافقة القوى الفلسطينية عليها. لكننا نرى، خلافاً لهذا كله، أن المشكلة ليست فيما إذا كانت الفصائل ستعترف للإخوة الفتحاويين بمسؤولياتهم هذه في غياب الرئيس عرفات.
المشكلة بتقديرنا تكمن داخل فتح نفسها وليس خارجها. فليس من طرف فلسطيني (حسب تقديرنا) يطمح في ظل غياب عرفات إلى مزاحمة فتح على مواقعها القيادية في المؤسسة الفلسطينية. غير أن هذا لا يلغي أن المنافسة لن تكون بين أركان فتح أنفسهم. ولا يمكننا - في السياق - أن ننظر إلى تصريح سهى عرفات ضد من أسمتهم بالمستورثين إلا باعتباره رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته ما يخفيه. مدركين في الوقت نفسه أن ما جرى من إعادة توزيع الصلاحيات ما هي إلا خطوة مؤقتة تحتاج إلى معالجة أخرى في الهيئات المعنية بعد أن يتم حسم مصير الرئيس عرفات. وهو ما يدعونا للتساؤل: كيف سيكون عليه البيت الفتحاوي، عند الدخول بالترتيبات بعيدة المدى للمسؤوليات التي خلفها عرفات، وقد أصاب الارتباك هذا البيت أمام الترتيبات المؤقتة؟.
نسوق هذا الكلام حرصاً على حركة فتح، وعلى المؤسسة الفلسطينية. ففتح تشكل كبرى الفصائل الفلسطينية، واستقرارها ينعكس استقراراً في المؤسسة وارتباكها الداخلي سيعكس نفسه إرباكاً للمؤسسة الفلسطينية كلها. وقد أكدت التجربة صحة هذا التقرير أكثر من مرة، لذلك - وعلى سبيل المثال - كنا في الجبهة الديمقراطية في مقدمة المبادرين إلى التوسط بين أركان فتح وتياراتها المختلفة، لحسم الخلافات بالحوار الداخلي، وبالاحتكام إلى الآليات التنظيمية بعيداً عن العنف وسفك الدماء. فبيننا وبين فتح صلات نضالية عميقة الجذور، وحرصنا على فتح هو حرصنا على مجمل القضية الوطنية وعلى مستقبلها.
من هنا حرصنا على أن تكون العملية الانتقالية هادئة ودون أية ارباكات. لكن ما يجب إدراكه أنه يصعب على شخص بمفرده أن يملأ الفراغ الذي يخلفه عرفات. وبالتالي فإننا نفترض أن العودة إلى الصيغة القيادية التي كانت قائمة في ظل عرفات لن تفي يقتضيها المشروع الوطني الفلسطيني.
وبدون أية حساسية، لا نذيع سراً إذا ما قلنا إننا كنا بالأساس ندعو إلى تطوير الصيغة القيادية الفلسطينية بما يستجيب للاستحقاقات القادمة على مجمل المشروع الوطني الفلسطيني. ونفترض أن غياب الرئيس عرفات يعطي لمثل هذه الدعوة بعداً جديداً، ويعمق ضرورتها، ويؤكد الحاجة الماسة للاستجابة لمتطلباتها.
ومن المفيد في السياق نفسه أن نؤكد أن دعوتنا هذه لا تطال الأشخاص بقدر ما تطال الصيغة نفسها. فدعوتنا لتطوير الصيغة تبقى نفسها، أياً كان الشخص الذي سيتولى هذه المسؤولية أو تلك. ونفترض استتباعاً أن الصيغة الأفضل، هي في اللجوء إلى انتخابات ديمقراطية، نحتكم فيها الشارع الفلسطيني، بموجب قانون انتخابي عصري يتيح للمواطن أن يختار من يرى فيهم القدرة على تحمل الأمانة. وهذا يتطلب مواصلة التحضيرات لتنظيم هذه الانتخابات (التشريعية والبلدية والرئاسية في السلطة والمجلس الوطني في م.ت.ف حين تتاح الفرصة).
وإلى أن تجرى هذه الانتخابات ويعاد تشكيل المؤسسة على أسس ديمقراطية عصرية، نرى ضرورة تشكيل قيادة وطنية موحدة تضم الجميع دون استثناء، تضع لنفسها آلية لعمل جماعي تنتفي فيه الفردية والاستفراد، وتتوفر من خلاله الأجواء التي يمكن الجميع من تحمل مسؤولياتهم الوطنية في صوغ القرار، وفي الالتزام بتنفيذه. من خلال هذه الأجواء نستطيع أن نتوافق على برنامج للعمل الوطني، يجدد زخم الانتفاضة والمقاومة، ويعيد تقديم الحالة الفلسطينية إلى العالم، متماسكة، وقد تجاوزت محطة غياب الرئيس عرفات بصف موحد، الأمر الذي يجدد ثقة العالم بالمشروع الوطني الفلسطيني، ويعزز دوره في الوصول بالمشروع إلى بر الأمان، تطبيقاً لقرارات الشرعية الدولية.
خطوة أخرى نراها ضرورية لتعزيز ثقة الشعب الفلسطيني بمؤسساته ألا وهي تشكيل حكومة اتحاد وطني للسلطة الفلسطينية، تكافح مظاهر الفساد وعناصره، وتعيد تسخير الطاقات والإمكانيات لتوفير المزيد من القدرة على الصمود في وجه العدوان الإسرائيلي، وتخفيف آثاره وتداعياته السلبية على المواطن الفلسطيني. إن الوحدة الوطنية تصون الانتفاضة والمقاومة كما تصون وحدة فتح، ووحدة المؤسسة الفلسطينية وتشكل حصناً يحمي الحالة الفلسطينية بمجملها من الفتن وكل محاولات التعدي عليها والمس بمصالحها. لقد تحدثت وسائل الإعلام على اختلاف اتجاهاتها عن وصية ما تركها الرئيس عرفات. إننا نعتقد حازمين أن الوصية الحقيقية - والتي لا لبس فيها - والتي تركها عرفات هي أن نواصل النضال حتى تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة وحتى نرفع علم الدولة فوق قباب القدس ومآذنها. ونعتقد أن الوحدة الوطنية المبنية على أسس ديمقراطية تكفل للجميع موقعه ودوره، هي السبيل للالتزام بوصية عرفات، وتحويل حلمه التاريخي إلى حقيقة.
|