منذ أربعين عاماً كان أبو عمار قد فرغ هو ورفاقه من استكمال بناء (حركة فتح) على المستوى التنظيمي والسياسي، فأكدت تلك الحركة نفسها منذ ذلك الوقت بأنها واحد من الأركان الأساسية في حركة النضال الفلسطيني المتطلع إلى استعادة الحق الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة سلماً أو حرباً، ومنذ أربعين عاماً أيضا تحطمت الأطر التقليدية التي كانت مهيمنة على (منظمة التحرير الفلسطينية)، نتيجة لولادة تصورات فلسطينية سياسية جديدة من ناحية، ونتيجة لتبدلات عميقة كانت تفعل فعلها في بنيان النظام العربي السياسي من ناحية أخرى، فتهيأت بذلك الظروف المناسبة التي جعلت (ياسر عرفات) ورفاقه يبسطون سلطانهم على (منظمة التحرير الفلسطينية)، الأمر الذي مكن (حركة فتح) بزعامة (أبو عمار) من أن توجه حركة النضال الفلسطيني في الاتجاهات التي سار فيها حتى هذا اليوم بينما كان من نصيب بقية الفصائل الفلسطينية بصرف النظر عن اتجاهاتها وميولها المتباينة نحو اليمين أو اليسار أن تلعب دور المعارضة السياسية في حدود ضيقة جداً.
وسواء نظر المراقب إلى هذه الوضعية السياسية نظرة إيجابية أم نظرة سلبية، فإن الأمر الذي لا شك فيه هو أن المواهب الشخصية التي تمتع بها (أبو عمار) قد لعبت دوراً حاسماً فيما وصلت إليه حركة فتح من النفوذ والهيمنة شبه التامة على العمل الفلسطيني السياسي والكفاحي، وسواء نظر المرء إلى مقدرات أبي عمار السياسية والتكتيكية نظرة إيجابية أم سلبية تلك المقدرات المتمثلة أساساً في براعة لا حد لها على المناورة والتكيف وصياغة التحالفات إلى غير ذلك من العناصر التي يستدعيها العمل السياسي في بيئة سياسية مثل البيئة العربية فإنه ليس بوسعنا إلا الإقرار بأن هذا الرجل قد تمكن من تحويل العامل الفلسطيني إلى عامل أساسي في السياسية العربية أولاً، وإلى عامل أساسي في السياسية الدولية ثانياً، على الرغم من ضآلة الإمكانات وغياب كثير من الشروط الضرورية التي تؤهل الطرف الفلسطيني للعب دور سياسي بحجم الدور الذي لعبه الفلسطينيون على مسرح السياسة العربية والدولية على حد سواء.
ولعل هذا ما تجلى بوضوح في مقدار الدعم والاهتمام والاعتراف الذي حظي به الحق الفلسطيني في شتى المحافل الدولية (الأمم المتحدة على سبيل المثال)، وفي إقناع الجانب الأمريكي أن يمنح اهتماماً لحل القضية الفلسطينية حلاً يفترض أن يكون عادلاً، وفي التحالف الذي صاغه (عرفات) مع الجانب الأوروبي وعلى رأسه (فرنسا) التي لعبت دوراً حاسماً في إقناع دول الاتحاد الأوروبي بأهمية أن يحصل الفلسطينيون على حقوقهم الشرعية، وبالجهود التي بذلتها لإقناع شريكاتها الأوروبيات بأهمية الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الحوض الجنوبي للبحر المتوسط باعتباره الركيزة التي يستند إليها الأمن الأوربي ذاته.
وبهذه المناسبة لا يسعنا إلا أن نثمن الدور الفرنسي الذي تمثل في تقديم الرعاية الطبية للرئيس ياسر عرفات على اعتبار أن هذه الرعاية هي في الحقيقة موقف سياسي يكشف عن وعي فرنسي عميق وأصيل بالأهمية الاستثنائية لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلا، وبالأهمية الاستثنائية للأدوار الإيجابية التي يستطيع الشعب الفلسطيني أن يلعبها في هذه المنطقة المتوترة من العالم، وما حرص فرنسا في الحقيقة على حياة (أبو عمار) إلا حرص على تماسك الوضع الفلسطيني الذي تتهدده الأخطار من كل جانب وبصورة خاصة من الجانب الإسرائيلي، إذا إن الحكومة الإسرائيلية ذاتها كادت ترحب علناً بموت الرئيس الفلسطيني، كما أن اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف قد عقد حلقات الرقص ابتهاجاً برحيل الزعيم الفلسطيني، حتى إن المحتفلين برحيل الرئيس (ياسر عرفات) في شوارع القدس الغربية قدموا الخمور والورود للمارة ابتهاجاً بهذا الحدث الجلل.
ولئن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن حكومة اليمين الإسرائيلية وجماهيرها الأكثر تطرفاً تشهد لعرفات حياً ميتاً بأنه قد كان عقبة كأداء في وجه السلام كما يتصوره الجانب الإسرائيلي.
ولقد كان الرئيس الفلسطيني كذلك بالفعل، إذ لم يتنازل عن أي حق فلسطيني في مباحثات (كامب ديفيد)، على الرغم من سخاء العروض التي قدمت له من وجهة النظر الإسرائيلية.
لم يتنازل عن شبر من القدس أو من المسجد الأقصى، ولم يتنازل عن حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، ولم يقبل بأقل من انسحاب إسرائيلي كامل إلى خطوط الخامس من حزيران لعام 1967م.
لهذا كله عاش سنواته الأخيرة أسراً في مبنى المقاطعة ، كما أن الحكومة الإسرائيلية مصرة على حرمانه من أن يدفن جثمانه (في القدس العربية). وعلى كل حال فإن الرئيس الفلسطيني يستحق أن يدفن بكل التكريم والتبجيل في مدينة رام الله بصورة مؤقتة ريثما تتوفر الظروف الملائمة لنقل رفاته إلى أرض القدس الطاهرة، المدينة التي طالما حلم أن يرفع العلم الفلسطيني على أسوارها.
وقد يخطر لقائل أن يقول: وهل كانت مسيرة عرفات كلها مسيرة نقية لم يداخلها أي عنصر غريب من أنانية أو انحياز للقريب والصديق، أو من أخطاء سياسية كان تجنبها قمينا بأن يجنب الشعب الفلسطيني مشكلات وربما ويلات ما كان أغناه عنها؟ وقد يقال أيضا: ألم يكن الرئيس الفلسطيني فردياً، وربما مستبداً، في قرارته؟ ألم يحط نفسه بمجموعة من الرجال ثبت فيما بعد أن بعضهم كانوا فاسدين؟ إلى غير ذلك من الأسئلة الحرجة التي لا يصح للمراقب أن يتجاهلها لأن تجاهلها لا يزيد عن كونه إقراراً بصحة الانتقادات والمآخذ التي وجهت إلى الرئيس الفلسطيني مراراً وتكراراً.
وفي الجواب على ذلك نؤكد أن الرئيس ياسر عرفات كان ابنا شرعياً للنظام العربي السياسي، فقد كان شخصية مسلماً بزعامتها ومعترفاً بأهمية وجودها على رأس (منظمة التحرير الفلسطينية) من الدول العربية المحافظة والثورية على حد سواء. وقد كان الرئيس (عرفات) على علم دقيق بهذه النقطة الأمر الذي جعله واحداً من كبار اللاعبين في الساحة العربية ولا يكون المرء لاعباً أساسياً إلا إذا كان عارفاً بالقوانين التي تحكم اللعبة، وخاضعاً لها في الوقت نفسه، لقد كان الرئيس الفلسطيني كذلك بالفعل فكل العيوب والنقائص التي يمكن أن تنسب إليه وإلى قيادته هي عيوب متأصلة في النظام العربي السياسي، ولربما صادفت سمات النظام العربي السياسي هذه هوى وميلاً في نفس الرئيس، غير أن السياسة لا تقوم على الأهواء والميول ولا تقوم على ما يسميه البعض ب (فن الممكن) وحده وإلا أصبحت السياسة مبتذلة لأنها لا تعدو أن تكون سوى استسلام الضعيف للقوي، ولذلك فربما قد عنت السياسة للرئيس الفلسطيني في كثير من الأحيان شيئاً آخر يرتقي بالسياسة إلى ما وراء الممكن الذي قد يبدو في نظر الكثيرين مطابقاً للمستحيل.
وقد تكشف هذا التصور المختلف لمعنى السياسة في فكر عرفات وسلوكه عندما خلق الظروف المناسبة لعودته مصحوباً بعشرات الآلاف من الفلسطينيين إلى أرض الوطن ليتمكن من خوض معركة مع الاحتلال وجهاً لوجه من فوق الأراضي الفلسطينية، فتحقق بذلك للنضال الفلسطيني بعد جديد دفع بالقضية الفلسطينية خطوة إلى الأمام أقنعت قطاعات كثيرة من الرأي العام العالمي بأن هذه القضية ليست مجرد قضية لاجئين وإنما قضية تحرر وطني وقضية شعب يطالب باستقلاله عن المحتل وبإقامة دولته الوطنية المستقلة ذات السيادة.
ومهما تكن النجاحات التي حققها عرفات في هذا الاتجاه، فمن المؤكد أن خلفاءه سيجدون نقطة ينطلقون منها نحو تعميق هذا المطلب والدفاع عنه وتأكيد الحقوق الفلسطينية من جديد، تلك الحقوق التي رفض الرئيس الفلسطيني التنازل عن أي جزء منها في كل المناسبات.
وقد يأخذ البعض على الرئيس عرفات أنه لم يوزع الصلاحيات على أعضاء القيادة الفلسطينية على نحو جعل المؤسسات الفلسطينية عاطلة ومعطلة عن العمل مما أدى إلى أن يدب الفساد والعجز في هذه المؤسسات من ناحية، وإلى أن تقع شبهة الفساد ببعض القائمين على شؤونها من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك أن الاستئثار بالسلطة من دون هذه المؤسسات قد يجعل الفلسطينيين في حيرة من أمرهم عندما يتعين نقل السلطة في حال غيبة الرئيس أو عجزه عن أداء عمله.
والجواب عن ذلك هو التسليم بصحة هذا المأخذ وشرعية هذا النقد غير أن (عرفات) قد كان في هذا أيضا ابناً باراً للنظام العربي فلا نعرف نظاماً عربياً، قد وزعت فيه الصلاحيات والاختصاصات على المؤسسات الدستورية والتنفيذية والتشريعية والقضائية بحسب اختصاصاتها فكل ذلك وغيره مما نعلم ولا نعلم مركز في يد واحدة. ولم يشذ عرفات عن هذا التقليد أبداً. غير أن عرفات لم يترك وراءه أي شخص يدعي حق وراثته وتسلم السلطة من بعده الأمر الذي يترك الباب مفتوحاً أمام الاحتكام إلى النظام الداخلي لمنظمة التحرير الفلسطينية وإلى القانون الأساسي للسلطة الوطنية الفلسطينية، ومن شأن الاسترشاد بهما، إن كان مخلصاً ونزيهاً، حل مشكلة الخلافة ونقل السلطة بسلاسة ويسر.
وأخيرا نقول للقلقين من المخاطر التي قد تترتب على نقل السلطة من (عرفات) إلى من يليه بأن النظام العربي التقليدي الذي تأكدت فيه زعامة عرفات وفرديته هو نفسه آخذ في الزوال والاضمحلال. فهذا النظام قد أصبح موضع بحث ومراجعة من الداخل وموضع شك وارتياب من الخارج، الأمر الذي يخلق فرصا أفضل نحو اختيار ديمقراطي للزعامة الفلسطينية المقبلة، وقد نخاطر بالقول بأن هذه الزعامة قد تحقق قدراً أكبر من الديمقراطية في إطار التمثيل الشعبي وفي إطار المؤسسات التي لا بد أن يناط بها اتخاذ القرارات المصيرية بدلاً من أن تكون القرارات كلها مركزة في يد زعيم واحد.
لذلك فإننا نتنبأ بأن دور المؤسسات السياسية في الأراضي الفلسطينية، بالإضافة إلى دور مؤسسات المجتمع المدني والأهلي، سيتعاظم في الحقبة السياسية التالية من حياة الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يسمح لنا بوصف حياة هذا الشعب بأنها ستكون أقرب إلى الحياة الديمقراطية مما كانت عليه في أي وقت سابق.
|