Friday 12th November,200411733العددالجمعة 29 ,رمضان 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "الثقافية"

قصة قصيرة قصة قصيرة
وبكيت صداقتي الراحلة..
وصايف إبراهيم الخويطر

كان أغلب وقتي أمضيه معها.. كانت تسرق قلمي.. وعندما تراني أبحث عنه.. تخرجه من مخبئها وتقول بضحكاتها الساخرة: (تحايلت عليك)..!
كانت أيام الروضة والتمهيدي أياماً مليئة بالذكريات، كبرنا قليلا.. وانتقلنا إلى المرحلة الابتدائية، كل يوم لا أخرج إلا ويدي بيدها.. ولا نفعل المشاغبات الصفّية إلا برآستها! ولا تحلو لي قطعة الحلوى.. إلا عندما أتقاسمها مع روان، ولا تبتهج قلوبنا.. إلا عندما نرى آباءنا يتشاورون ويتحدثون.. فنفرح لعلاقتهم.. ولا تكتمل فرحتنا إلا عندما نرى أمهاتنا في السوق لعدة ساعات.. ونحن نتنزه في الملاهي.. لا أستطيع فراقها أكثر من يوم.. وإلا ذهبت إلى منزلها.. وأعاتبها لماذا لا ترد على مكالماتي.. وهي كذلك..
أصبحنا في الصف السادس الابتدائي.. لا أحل واجباتي إلا معها.. وهي لا تفعل أي فعلة تعتبرها (سرا خاصا) إلا والخبر اليقين عندي.. كانت أياما جميلة لا يكدرها إلا تفكيرنا في ساعة الوداع.. وإن كانت هذه اللحظة بعيدة.. فنعلم أنها ستقرب يوماً ما فنحزن كثيرا.. تهمس بأذني: (ماذا ستفعلين لو رحلت عنكِ؟) وأنا صامتة.. أحاول أن أبتسم للمارة وأشغل عينيّ في النظر إلى أنحاء الغرفة.. وكأني لم أسمعها.. تسأل مرة أخرى: ( لو حدث شيء لا سمح الله وتفرقنا.. ماذا تعتقدين سيحل بي؟!) وأنا لا أزال صامتة.. تكمل كلامها لي.. وكأن أفكارا ما تحرضها علي فجأة..(لو مثلا...؟؟) قاطعتها:(ياروان.. أرجوك أن تبعدي هذه الأفكار عنك.. التي ستشغل بالك وتتعس أيامك دون جدوى.. وبإذن الله لن نفترق ما حيينا..).
فتضع يدها على كتفي، تبتسم ابتسامة صفراء، وتقول بصوتها العميق : (هيا.. اعتقد أننا قد تأخرنا عن الحصة).
مضت مراحل الابتدائية تمر من أمامنا كلمح البصر.. لم نشعر بها يوما.. وانتقلنا للمرحلة المتوسطة.. متأملة في السنوات الماضية.. سبحان الله.. كل تلك المغامرات.. والأحاديث والزيارات.. أصبحت في طي السنة الماضية؟.. وكأنها بالأمس.. تزداد علاقتي معها يوما بعد يوم، نحن ببساطة كالأوراق البيضاء الخالية من الشوائب أمام بعض.. ولكن مع الأسف يبدو أننا لم نكن نعلم بالذي يجري من خلف ظهورنا.. وفي أول مراحل المتوسطة.. شيء واحد لاحظته.. أن أهلنا أصبحوا يشتكون من قلة الوقت الذي نمضيه معهم.. لكن لا حياة لمن تنادي.. اسلبوا عينيّ مني.. ولا تبعدوا روان من حياتي..
ودخلنا الصف الثاني المتوسط، اضطروا للرحيل إلى حي آخر لظروف عمل أبيها، فصَمَّمَت على أن تبقى في نفس مدرستي.. رغم أن سكنهم الجديد يبعد جدا عن المدرسة.. وأنا لم أطلب منها هذا الشيء.. وعندما أسألها عن سبب إصرارها تقول: أنت لا تعرفين شأنك عندي وما تعنيه صداقتنا في حياتي.. لا تتخيلين أبدا.. تخنقني العبرة.. واحتضنها بقوة..وأجهش بالبكاء.. ومن غير سبب!
هذه روان كعادتها، كلمات قصيرة وقوية.. جميلة ومختصرة، ولكنها -واللهِ- كبيرة في قلبي.
ذات يوم.. طالت مدة مكوثي عندها إلى الساعة الثالثة فجراً.. كان وقتنا مسليا لم نشعر به إذ سرقنا.. هاتفتُ أمي وطلبت الإذن منها أن أبيت عند روان.. اليوم فقط.. فحمدا لله وافقت أمي.. أقفلت السماعة.. وأخبرتها بالموافقة.. فأخذت تقفز وتصرخ من الفرحة.. أما أنا فأخذت أضحك على شكلها.. ولكن خشيت أن تخرج مع البسمة دمعة.. ففضلت السكوت.. جهزت فراشي، ونمت نوماً عميقاً.. مليئاً بالأحلام الجميلة.
وفجأة استيقظنا على صوت رنين الهاتف.. كانت رنات متواصلة وسريعة.. وكأنها تصف حالة المتصل.. لكن روان أخبرتني فيما بعد أن رنين هاتفها بهذه الطريقة.! رفعت روان السماعة.. وبدت على ملامحها الغضب.. كانت تقول كلمات غريبة متقطعة.. كَ (لا أرجوك يا أبي.. لنؤجل هذا الموضوع.. أنا لا أريد.. حتى إخوتي لا يوافقونك على هذا الأمر.. وليس هناك الوقت الكافي لجمع حاجياتنا من المنزل..!!).
سألتها بتخوف: ماذا هناك؟.. ردّت عليّ وبحلقها غصّة.. بصوت خافت مخيف...: (وصايف.. اليوم هو موعد رحيلنا من المملكة..)!!!
أصبحت أسألها أسئلة عشوائية (إلى الأبد؟ متى سترجعين؟ متى سترجعين؟ وكيف سألقاك؟؟)
توالت الذكريات في مخيلتي.. وتأججت نيرانا في قلبي.. ضاقت بي الدنيا.. وتجرعت كأس كلامها كدرا وضيقا.. وفي أقل من ثانية.. عرض أمامي شريط الذكريات.. وتذكرت أمسها.. عندما قالت لي إنني أقرب شخص لها في الوجود.. وقبلت رأسي وشكرتني على كل ما أفعله معها.. أتذكر عندما مدت يدها لي.. ووعدتني بالصداقة الدائمة.. كم أقسمت لي بالله حبا.. وكم وكم؟! لكن يبدو أن الوعود بدأت تتلاشى.. مدت لي يدها.. وصافحتني.. (أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه).. لكن يبدو أنني من هول الموقف لم أستوعبه جيدا.. فأوصلوني للبيت.. وأنا صامتة!
دخلت البيت.. استقبلتني أمي: (صباح الخير.. ماذا حدث؟؟) أجبت: (ستسافر روان مع أهلها لدولة الكويت لفترة قصيرة.. لا أتوقع أنها تتعدى يومين أو ثلاثة)..
نظَرَت إليّ أمي بنظرة غريبة.. قالت: (بنيتي.. متى ستصحين من حلمك؟ اعتقد انك كبيرة وعاقلة بما فيه الكفاية لفهم الموضوع.. لِمَ تتخيلين وتقنعين نفسك أنها كم يوم فقط.؟ هل هذه هستيريا الحزن..؟).
أمي.. لا أعي ما تقولين.. وضّحي أكثر!!
(يا ابنتي.. ألم يأتك الخبر؟ أن سفرهم للكويت.. سيكون للأبد)!!
فجأة أصابتني قشعريرة في جسمي.. وبدأت أشعر بشعور غريب.. وكأن ثلجا يسري في عروقي..
تراجعت قليلا للوراء.. وأحسست أنني على وشك فقدان الوعي.. حتى استيقظت وأنا بالمستشفى.. المغذي بجانبي وأمي والممرضة حولي.. حاولت أمي مواساتي.. فأعطتني رسالة وجدتها في حقيبتي.. وتقول أنها من روان.. كتب فيها الآتي:
بسم الله الرحمن الرحيم..
يا أغلى صديقة.. وصايف.. شكرا لك.. على كل شيء!.. أأسف لرحيلي.. ولكن بإذن الله غدا سنأتي أنا وأنت.. ونرجع الذكريات للوراء.. لا أقول الوداع.. بل إلى اللقاء.. محبتك للأبد.. روان.
قرأت هذه الرسالة.. فأجهشت بالبكاء.. حتى أصبح المرضى في الغرف المجاورة يشكون من الإزعاج.. وإذا بأمي.. تحتضنني.. وكأنها تحس بلوعة فراقها.. ولهيب وداعها.. مضى يومان وأنا بداخل الغرفة.. تدخل أمي علي محاولة تخفيف المعاناة.. وكانت هذه آخر كلماتها التي قررت من بعدها أن أواجه حقيقة الأيام:
( يا ابنتي.. متى ستكسرين هذه القيود عنك؟.. بكاؤك هذا لن يزيد ولن ينقص.. ولن يرجع روان..! أرجوك.. كفاك من تعذيب نفسك.. لا أريد أن يغرني ما أبصره بابنتي.. فأنا أعرف ما بداخل المظروف ولا يغرني مظهره.. غدا سيأتي.. وقد تلتقين بروان.. وسيكون كل شيء على ما يرام.. فقط ابتهجي في أيامك فهذه الدنيا لا تستحق كل ذاك الحزن والشحوب..)
أمي.. بماذا تحاولين إقناعي.؟ والله أن لم يبقَ في خاطري إلا ذكريات الراحلة.. صورة روان في كل مكان في غرفتي.. من أين لي النسيان وأنا أراها في كل جزء من حياتي.. وكلما أراها أواجه الحقيقة بالبكاء.. فأبكي وأبكي لأنفِّس بعض ما بصدري وبخاطري بالدموع.. ماذا تريدين مني أن أفعل.. أنا صغيرة بالسن بعض الشيء.. كيف سأقيس الوضع بذلك العقل والمنطق.. أمي حن الفؤاد فأين أجد من يشفيه أين؟!.. ضاع أمري يا أمي.. إنك لا تشعرين بما أشعر به.. لأنك لم تصادقيها مثلي.. أعتذر.. لكنني أملك مشاعر وأحاسيس وأعلم أنك ترجين من ابنتك وقريرة عينك أكثر من ذلك.. ولكن من يده بالنار ليس كمن يده بالماء.. لا تلوميني.. وتلومي تفكيري المرهق.. فلقد نفترق للأبد!! أمي.. والله إني انتظر كل يوم أملا يبزغ في حياتي كبزوغ الشمس في أواخر الفجر.
وما زلت أبكي.. حتى وجدت نفسي قد بللت رسالتها بالدموع الساخنة.. ومضت الأيام بسرعة.. وأنا لا أزال قاطعةً وعداً على نفسي ألا أكلمها بالهاتف حتى لا أبكي فتبكي معي.. من حبي لها لا أريد أن أشعرها بالضيق فأنا أعرف أن ما تعيشه اليوم قاسٍ عليها وكافٍ.. ومكالماتي ستزيد الوضع شوقا.. وقررت أن أتراسل معها بالبريد.. كتبت الرسائل وزينت الصفحات ولكنني انتظرت الرد طويلا ولم يظهر..وبعد فترة من الزمن.. أسبوعين تقريباً.. رن الهاتف.. رفعت السماعة.. وكان المتصل رجلاً غريباً.. يخبرني عن وفاة روان!
في يوم الجمعة 14 شعبان.. سبحان الله.. كان موتا مفاجئا.. رحلت عن هذه الدنيا.. وهي صائمة وكانت تحثني دوما على صيام مثل هذه الأيام الفاضلة.. حيث ترفع بها أعمال السنة إلى الله.
ولكن.. روان ماتت!!. إلى الآن لم أصدق هذا الخبر! وما أن رجعت من المدرسة في اليوم التالي.. حتى شعرت بضيق شديد يجتاح صدري.. فأسرعت بمهاتفة منزلهم في الكويت.. وعندما انتصفت في المكالمة.. تذكرت أن روان الآن ليست في الوجود.. روان ليست مع البشر.. إنها في القبر.. فأتراجع.. ولم أتذكر حينها إلا بعضا من أبيات جميلة جدا من قصيده أعجبتني.. فأصبحت كل يوم أنشدها وأبكي.. حتى تكاد الكلمات تتحول إلى بكاء وكلام غير مفهوم:


قد كنت أنطق بالوداع وأسمعُ
واليوم أسقى من أساه وأفجعُ
ما كان يفجعنا الممات وإنما
بُعد الحبيب عن الحبيب المفجعُ
كأن ما أخبرت أنك ميت
وبأنها دار إليها نزمعُ
احفر تراب قبركم وأنا أرى
والله طيفك من أمامي يرتعُ
أمشي لقبرك والخطى مذعورة
والقلب من حر الأسى يتقطعُ
نمشي على نار الهجير وفي
الحشى نار أشد من الهجير وأفظعُ
قد كان مطلعكم يفيض بأنسنا
واليوم نبكي أين ذاك المطلعُ؟
أين ابتسامتك التي تروي صدى
أحزاننا بندى الصفاء وتترع؟
في القبر ننزل جسمكم وبهامة
فوق النجوم لطيب ذكرك نرفعُ
يا راحلا عن ناظري وحبه
في سابحات قلوبنا متربعُ
إن باعدت ما بيننا الدنيا ففي
جنات عدن للأحبة مجمع

فلا حول ولا قوة إلا بالله.. إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ .. كانت تلك سنين من عمري لن أنساها..
فكيف ينسى القلب يوما نبضاته؟؟ وكيف تطوي أوراقنا.. أجمل ذكرياتها؟!
هذه الدنيا.. أحيانا تكون بنظري.. مآسيها وأحزانها أكثر من أفراحها..
حياتنا مجرد هبات من الله.. ويقابلها قدر أقوى منّا.. يسلب غالبا.. ما نريده ونحبه..
هذه حكمة الله.. وما هي إلا ابتلاء وامتحان.. وخيرنا من ينجح في هذا الامتحان..
ولكنني.. مازلت أتعلم في هذه الحياة..
وتعلمت اليوم.. أن كل ما جاء كبيرا وعظيما..
فتلاشيه وذهابه.. سيكون أصعب!!!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved