لا أظن أحداً في يومنا هذا يُجمِع الناس بمختلف أمصارهم وشرائحهم وفئاتهم على إجلاله وتقديره مثل (زايد)؛ هذا الاسم الجميل (زايد) كأني اليوم فقط أستشعر معانيه الرائعة؛ أتأمله فتتجلى أمام ناظري العبارة القائلة «اسم على مسمّى»، فهو (زايد) في حرصه على توحيد الأمة العربية ومداواة جروحها الكبيرة والكثيرة، وهو (زايد) في همّته وحكمته ومبادئه، وهو (زايد) في حب الناس له، وهو (زايد) في عطاءاته. لا يكاد المرء في أي مكان يعدد مآثر (زايد) إلا ويضع بلده في مقدمة الدول التي حظيت بإنجازاته واستأثرت باهتماماته، ولا يُلام أحد في ذلك. . لأنها الحقيقة. فإذا تغنّى أبناء مصر في بصمات (زايد) الخيّرة في إنشاء مدينة زايد، أو في الإسهام بمبلغ عشرين مليون دولار لإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة، وغير ذلك كثير! وإذا تغنّى أبناء اليمن بإسهامات (زايد) السخيّة في استكمال إنشاء إذاعة صنعاء، ثم في تكملة مشروع الإذاعة والتلفزيون اليمنيين، ثم في إنجاز طريق صنعاء مأرب الذي بلغت تكلفته 187 مليون ريال يمني على نفقة الإمارات حيث وضع بيديه حجر أساسه في سبتمبر - أيلول 1976م، ثم في نجدة (زايد) بمبلغ ثلاثة ملايين دولار أمريكي لمساعدة المتضررين من الفيضانات والسيول التي ضربت اليمن في إبريل - نيسان 1982م، ثم وقفة (زايد) الشامخة في بناء سد مأرب! وإذا تغنّى أبناء السودان بآثار التبرع السخي ل (زايد) في إنشاء كلية الطب ومستشفى ناصر بمدينة ود مدني، ثم في تبرعه بمبلغ ثلاثة ملايين دولار أمريكي لعلاج حالة العطش التي عانى منها السودان في مارس - آذار 1972م، وكذلك في تبرعه بمبلغ خمسة ملايين درهم إماراتي للمساهمة في مشروع التنمية الريفية في منطقة دارفور بغرب السودان في ديسمبر - كانون الأول 1976م! وإذا تغنّى أبناء عدد كبير من الدول من بينها على سبيل المثال لا الحصر البحرين والمغرب وسوريا والبوسنة والهرسك والباكستان وبنجلاديش والسنغال واليونان والصين وجواتيمالا في وقفات (زايد) المعطاءة في تمويل العديد من المشروعات الصناعية والزراعية والعمرانية في تلك البلاد وغيرها! فما عسانا أن نقول نحن أبناء فلسطين!! وبأي اللغات نتغنّى في بصمات (زايد) ومآثره التي شملت ربوع فلسطين!! لقد كنت يومها ابن ستة عشر عاماً عندما تبرع (زايد) بمبلغ عشرين ألف دينار بحريني لدعم صمود أبناء قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني الغاشم، ومازلت أذكر كيف كان شعور الفرحة يتفجر من داخلنا ومن عمق أحزان النكبة التي حلت بنا؛ نعم. . مازلت أذكر ذلك الموقف الخالد؛ فزعة رجل شهم ينتشل أبناء قطاع غزة من الغرق، يشد على أيديهم، يؤازرهم، ولسان حاله يقول لهم: أنتم لستم وحدكم، ألمكم يؤلمنا وحزنكم يحزننا ودماؤكم أغلى علينا من أموالنا، قفوا وقاوموا وجاهدوا ونحن من حولكم حتى النصر والتحرير بإذن الله، ولا أحد ينسى تلك الرصاصة المدوية التي أطلقها (زايد) عام 1973م وهو يقول: «النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي»، نعم. . مازلت أذكر تلك الأيام الوهاجة من شهر يونيو - حزيران 1971م، وأجمل ما أذكر فيها أنني لحظتها فقط عرفت (زايد)، وعرفت أن الأمة الإسلامية أمة عظيمة على مر العصور وعنوان عظمتها في هذا العصر هو (الشيخ زايد) الذي هبّ مسانداً وداعماً لفلسطين وأبناء فلسطين. وتواصلت مسيرة خيرات (زايد) وعطاءاته المضيئة في كل فلسطين، ولم تنقطع أبداً حتى اللحظات الأخيرة من حياته؛ فهاهي مدينة زايد ليست في مصر والبحرين وحسب، بل هنالك مدينة زايد ثالثة في فلسطين، وهاهو مخيم جنين؛ مخيم العزة والصمود، الذي دمرته يد الغدر الصهيونية، يُعاد بناؤه بأنفاس (زايد)، وهاهو الشعب الفلسطيني في أوج انتفاضته الباسلة المتواصلة بمشيئة الله حتى دحر الاحتلال يستقبل فرسان (زايد) الذين قدموا من الإمارات العربية المتحدة ليدخلوا إلى قلب فلسطين ليس فقط بسيارات الإسعاف وشاحنات المؤن والأدوية، وليس فقط يشرفون بأنفسهم على إعادة إعمار المستشفيات والمساجد والمدارس، بل أيضاً يتحملون المعاناة نفسها التي يعيشها الفلسطينيون لدى متاريس الحواجز الصهيونية المقيتة، ويتنقلون بين بيوتات إخوانهم الفلسطينيين في مدنهم ومخيماتهم وقراهم من بيت إلى بيت، يطرقون أبوابها بأياديهم الرحيمة الملائكية؛ يمسحون دمعة طفل أفزعته طائرات شارون ودباباته، ويطببون آلام جريح أراد الشهادة ومازال ينتظر، ويواسون أمّ شهيد وقفت أمام نخوتهم وشهامتهم بعزّة وإباء تطلق مع دموعها الحرّى زغرودة الشهادة لفلذة كبدها، ويَجْبُرون خاطر رجل عجوز فقد بيته ليفترش الأرض ويلتحف السماء، ويسلمونهم تلك المظاريف البيضاء من لدن (زايد)، وليس آخر ما جادت به نفس (زايد) مبلغ الثلاثين مليون درهم الذي تبرع به لضحايا انتفاضة الأقصى، بل هنالك الكثير والكثير وما ذكر هنا ما هو إلا مجرد مثال صغير لوقفات (زايد) الرائدة مع أبناء فلسطين. وها نحن اليوم بقلوب حزينة وعيون دامعة نودع هذا الرجل العظيم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان؛ الأصيل في عروبته، والنقي في إسلامه! نودعه فارساً قَلَّ مثيله في ساحات الخير والعطاء! نودعه.
وعزاؤنا أننا نودع فيه جسده، أما روحه فباقية بنورها وعبقها وألوانها الزاهية البهية ترفرف في أذهاننا ووجداننا، وتحلق هناك في أجواء فلسطين وفي ذاكرة الصمود الواعد للشعب الفلسطيني الذي أقف خلفه نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يرحم (زايد الحبيب) ويغفر له وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والشهداء والصالحين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
كاتب فلسطيني مقيم في الرياض
aaajoudeh@hotmail. Com
|