هذا الشهر الكريم، بالأمس أَنِسَ المسلمون لقدومه, وتطلعوا لموسم الخيرات فيه، وما أنعم الله على عباده فيه، من أعمال وأجور، شعر معها المسلمون بالروحانية والتعاطف، فقد رقَّت القلوب، فيما بين الأفراد تسامحاً، ولانت الأيدي عطاء، وتحملت أعضاء الجسم أنواع العبادات، من قيام وتلاوة، وسعي وسهر، بما أسعدها لأنها في طاعة الله، وشعر الفقير بمعاني الأخوة: مساعدةً وإطعاماً للطعام، ورقةً في التعامل.
أما في المودة بين الناس، وصلة الرحم بين الأقارب، والتسامح عن الهفوات، بين مَنْ كان قرع الشيطان طبوله وأفسد بينهم، فقد كان من التقارب وإقالة العثرات، في هذا الشهر ما أزال الهفوات، وقارب بين القلوب المتجافية.. وغير هذا هي من خصائص رمضان، شُهِرَ بها, وشعر بها من استفاد من روحانية شهر رمضان وما فيه من المنافع والمصالح.
وما بقي من هذا الشهر إلا سويعات، وهي فرصة لحسن الختام، وتدارك نفحات هذا الشهر الكريم، شهر العطاء والجود، حيث كان سلف هذه الأمة يحبون هذا الشهر ويسارعون للأعمال فيه لمكانته، فكانوا يدعون الله سبحانه ستة أشهر بأن يبلغهم رمضان، وبعد خروجه يدعون ستة أشهر بأن يتقبل منهم رمضان الذي خرج، كل هذا حباً في الشهر وشوقاً لهذا الشهر، الذي يعين الله فيه على فعل الخير، وتكثر فيه الفرص لمكانته وكثرة مَنْ يُغفر له من أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) فيه.
ولما كان هذا الشهر قد أخبر (صلى الله عليه وسلم) بأن آخره عتقٌ من النار، فاحرص يا من فرطت في أوله، وتساهلت في وسطه، وضاعت عنك فرص في آخره، أن تختم بخير، وأن تتدارك ولو ساعة من آخره، لتعمل فيها بصدق وإخلاص لما فيه من فرص للعطاء، ولما يتفضل الله فيه على عباده من جزاء غير محدود.
ذلك أن كل دقيقة يغتنمها الإنسان فيها خير وبركة، كما قال صلى الله عليه وسلم عن آخر هذا الشهر بأنه عتق من النار، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، فيأتي من فرص الوداع في هذا الشهر: صدقة الفطر التي هي طهرة للصائم، يخرجها عن نفسه وأهل بيته ومن كانت تلزمه نفقته في هذا الشهر أو جزء منه.
وأفضل وقت لاخراجها يوم العيد، قبل الصلاة، وهي طعمة للفقراء تكفيهم عن السؤال في ذلك اليوم؛ لأن العيد موسم فرح، حتى يشعر الفقراء بتعاطف إخوانهم معهم، وأداء ما افترض عليهم بحسن استجابة، وبنفس طيبة.
وصدقة الفطر تدفع من قوت البلد: صاعاً من التمر، أو صاعاً من الشعير، أو صاعاً من بر: قمح أو أرز، عن كل فرد من الأسرة، أو من تلزمك نفقته في هذا الشهر أو أكثر بالأُجراء والخدم وغيرهم.
فالقمح والأرز لأنهما أخف مؤونة وأيسر في حاجة الفقير وأهله، يكفي في كل منهما مدان عن كل كبير وصغير، أو حر أو مملوك.
وتدفع من غير الأصناف المذكورة من قوت البلد كالذرة والزبيب والأقط وغيرها, وهذا من التسهيل على الناس، ومراعاة ما تعودوا عليه، لأن مبدأ الإسلام السماحة والتيسير وعدم المشقة.
فاحرص يا أخي على دفعها في وقتها؛ لأنه جاء في الأثر بأن شهر رمضان معلق بين السماء والأرض لا يُرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وإن تأخر لما بعد الصلاة فتكون صدقة من الصدقات.
وهي فرض على كل مسلم: حر أو مملوك، كبير أو صغير، ذكر أو أنثى، حاضر أو بادي. وقد فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة: باب زكاة الفطر برقم 1609 عن ابن عباس موقوفاً وهو بحكم المرفوع.
كما أنها لمكانتها، لم تسقط مهما كان وضع المرء، ما دام عنده فَضْلٌ عن قوته يوم العيد، فقد ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا زيد اعط زكاة رأسك مع الناس، وإن لم تجد إلا صاعاً من حنطة (كنز العمال 8: 554).
ويأتي العيد منهياً لأعمال الشهر الكريم، وبداية لشهر آخر، يستهله المسلمون بالصلاة والتكبير والتهليل؛ ذلك أن حياة المسلم ملك لله، ويجب عليه أن يستثمرها في طاعة الله، طمعاً في كسب رضاه سبحانه لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } ( الذاريات 56- 58)، والله سبحانه لا يكلف إلا ويعين، ولا يكلف نفساً إلا وسعها.
فأعمال العيد من الأشياء المحببة للنفس، والتي لا تكلف عناء ولا مشقة، ومع هذا ففيها أجر عظيم، فالعيد فرح وأكل وشرب، ويحرم صومه، وصلة للرحم، وزيارات وتبادل التهاني بين الناس، حيث تتصافى النفوس وينجلي عنها ما علق بها من صدأ وجفوة، وكان الأحباش يظهرون فرحهم في المدينة فتشاهدهم عائشة -رضي الله عنها- بحضور النبي في ذلك اليوم.
فعند خروج المسلم لصلاة العيد التي هي فرض كفاية يحسن به أن يكثر من التهليل والتكبير والتحميد والتقديس، ويشكر اللهَ على أن أتم شهر الصوم، ويسأله سبحانه القبول والإعانة، ويخرج إلى صلاة العيد ماشياً، ويحث أولاده، ذكوراً وإناثاً صغاراً وكباراً على حضور الصلاة، والتبكير إليها أفضل، وعلى أحسن هيئة، بلبس أجمل ثيابه، قدوة برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما جاء في حديث جابر بأنه يتمّ ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة، إلا المعتكف فإنه يخرج في ثياب اعتكافه.
والسُنّة أن يتناول المسلم إفطاره في عيد الفطر قبل الخروج للصلاة، وصلاة العيد ركعتان، كصلاة الجمعة قبل الخطبة، والخطبة بعد الصلاة، قال عبدالله بن السائب: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة العيد، فلما قضى الصلاة قال: (إنا نخطب فمن أحب أن يذهب فليذهب) رواه ابن ماجه.
ويُكره التنفل، كما قال ابن عباس بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يوم العيد، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدهما. رواه البخاري ومسلم. ويوسع على نفسه وأهله ويكثر من الصدقة.
في موت علي رضي الله عنه
نقل ابن كثير في تاريخه عن جرير عن مغيرة قال: لما جاء نعي علي -رضي الله عنه- إلى معاوية وهو نائم مع امرأته فاخته بنت قرظة في يوم صالف، جلس وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون, وجعل يبكي. فقالت له فاخته: أنت بالأمس تطعن فيه، واليوم تبكي عليه؟ فقال: ويحك إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره.
وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان: أن رجلاً من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه فأخرجه من منزله، فخرج الغلام لا يدري أين يذهب، فجلس وراء الباب من خارج، فنام ساعة ثم استيقظ وبابه يخمشه هرّ أسود بري فخرج إليه الهرّ الذي في منزلهم فقال له البريّ: ويحك افتح فقال: لا استطيع، فقال ويحك ائتني بشيء أتبلغ به فإني جائع وأنا تعبان، هذا وأنا مجيء من الكوفة، وقد حدث الليلة حدث عظيم، قال: ما هو؟ قال: قُتل علي بن أبي طالب، فقال له الهرّ الأهلي، والله إنه ليس ها هنا شيء إلا وقد ذكر اسم الله عليه غير سفّود -وهي الحديدة التي يشوى بها-، كانوا يشوون عليه اللحم، فقال الهرّ البري: ائتني به. فجاء به فجعل يلحسه حتى أخذ حاجته وانصرف.
وذلك بمرأى من الغلام ومسمع، فقام الغلام إلى الباب، فطرقه فخرج إليه أبوه فقال: مَنْ؟ فقال له: افتح، فقال: ويحك مالك؟ فقال: افتح.. ففتح فقص عليه خبر ما رأى. فقال له: ويحك أمنام هذا؟ قال: لا والله، قال: ويحك أفأصابك جنون بعدي؟ قال: لا والله، ولكن الأمر كما وصفت لك، فاذهب إلى معاوية الآن، فاتخذ عنده بما قلت لك يداً.
فذهب الرجل، فاستأذن الرجل على معاوية، فأخبره خبر ما ذكر له ولده، فأرّخوا ذلك عندهم قبل مجيء البريد، ولما جاءت البُرُدُ وجدوا ما أخبروهم به مطابقاً لما كان أخبر به أبو الغلام.. ثم قال ابن كثير هذا ملخص ما ذكره وهي عجيبة من العجائب. (البداية والنهاية: 8: 19 - 20).
|