بوصفه متابعاً وناقداً ومحللاً للسياسة الدولية - والسياسة الخارجية للولايات المتحدة على وجه الخصوص - فقد كان تشومسكي خير مَن يقدم التقويم الموضوعي لهذه السياسة، مستصحباً الرأي العادل والقراءة الصادقة غير المتحيزة للسياسة الأمريكية الخارجية.
في كتابه (هيمنة الإعلام: الإنجازات المذهلة للدعاية) يقدم تشومسكي معلومة قد تكون جديدة على كثير من الناس داخل الولايات المتحدة وخارجها فيما يتعلق بحربها على ما أسمته (الإرهاب)، وهي معلومة قد تغير الكثير من مفاهيم الرأي العام العالمي عن حقيقة حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب، وتقدم لهم رؤية مختلفة عن تلك التي تروج لها الآلة الإعلامية الأمريكية. وتفيد هذه المعلومة أن ما يعيشه العالم اليوم بقيادة الولايات المتحدة في حربه ضد الإرهاب إنما يمثل المرحلة الثانية من استراتيجية أُعدَّت قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ فالحرب على الإرهاب لم تُعلن في الحادي عشر من سبتمبر، بل أُعيد إعلانها باستخدام منطق الإعلان الأول نفسه قبل عشرين سنة.
ويذكرنا تشومسكي بأن الرئيس الأسبق رونالد ريجان أعلن آنذاك أن الحرب على الإرهاب ستكون لب السياسة الأمريكية الخارجية، وأدان ما أسماه (بلاء الإرهاب الشرير) كما نقلت ذلك صحيفة النيويورك تايمز في 18 أكتوبر 1985م. في تلك المرحلة كان التركيز الرئيس على الإرهاب الدولي المسنود من الدولة في العالم الإسلامي، واستشهدت إدارة الرئيس ريجان بما وصفه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق جورج شولتز بأن الإرهاب الدولي وباء انتشر عن طريق (أعداء الحضارة الفاسدين؛ ليعيدوا عالم العصر الحديث إلى البربرية). وبهذا يؤكد تشومسكي أن موضوع الإرهاب الدولي في الشرق الأوسط كان موضوع السياسة الخارجية الأمريكية عام 1985م، وأما العام 2001م فإنه يمثل المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب، ولا يزال الموضوع يأتلق ويغري للمضي فيه بما يحققه من مصالح استراتيجية أكبر مما تحقق في المرحلة الأولى.
ويلفت تشومسكي النظر إلى معلومة مذهلة: فالأشخاص الذين كانوا في المرحلة الأولى من الحرب على الإرهاب لا يزالون في مواقع القيادة في المرحلة الثانية؛ دونالد رامسفيلد الذي يدبر الجانب العسكري من المعركة كان موجوداً في ذروة الحرب على الإرهاب عام 1985م، وجون نيغروبونت الذي كان في المرحلة الأولى يشرف على العمليات العسكرية للولايات المتحدة في هندوراس عُيِّن مسؤولاً عن الجانب السياسي لهذه الحرب في المرحلة الثانية.
وأما عن المكتسبات المتحققة من الحرب ضد الإرهاب في مرحلتيها الأولى والثانية فيقول تشومسكي: إن (إسرائيل) هي المستفيد الأول، بل هي المحرض الأول لهاتين الحربين؛ لعلمها أن الفائدة ستكون حصرية لإسرائيل ولو كان ذلك على حساب الولايات المتحدة نفسها.
في الحرب الأولى استخدمت إسرائيل ذريعة الحرب ضد الإرهاب؛ فقد غزت لبنان وقصفت المدن، وارتكبت أعمالاً وحشية بمساندة من الفيتو الأمريكي؛ حيث قتل الإسرائيليون 18000 لبناني، واحتلوا جنوب لبنان. وشهد العام 1985م (تذكَّروا هذا العام الذي يمثل المرحلة الأولى في الحرب على الإرهاب) ذروة الأعمال الوحشية الإسرائيلية- الأمريكية في جنوب لبنان من خلال (عمليات القبضة الحديدية الأولى)؛ حيث ارتكبت فيه إسرائيل مذابح واسعة وشردت الأهالي من قراهم، وفجرت إسرائيل في لبنان سيارة مفخخة بعدما خرج المصلون من المسجد لضمان قتل أكبر عدد من الناس، وراح ضحية التفجير 80 شخصاً، وجرح أكثر من 250 معظمهم من النساء والأطفال. وفي العام نفسه قصفت إسرائيل تونس، ومات 75 شخصاً من فورهم. وفي هذا العدوان الوحشي الإرهابي ساندت الولايات المتحدة إسرائيل بعدم إعلامها حلفاءها التونسيين بأن القاذفات الإسرائيلية في طريقها إلى تونس، وأبلغ جورج شولتز إسحاق شامير أن الولايات المتحدة (تتعاطف جداً مع هذا العمل)! بعد ذلك أدان مجلس الأمن بالإجماع هذا العمل واعتبره (عدواناً مسلحاً)، وامتنعت الولايات المتحدة عن التصويت!! والمذهل أن إسحاق شامير ذهب إلى واشنطن بعد هذه العملية ليشترك مع ريجان في التنديد (بكارثة الإرهاب) في الشرق الأوسط!!
في المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب - التي يصطلي الشرق الأوسط بأوارها الآن - يؤكد تشومسكي أن إسرائيل هي المستفيد الأول، وتصعيد هذه الحرب إنما يتم بأصابع إسرائيلية تظهر حيناً وتختفي أحياناً كثيرة، ولم يكن غزو أمريكا لأفغانستان بدعوى القضاء على حكومات ورموز الإرهاب إلا مسوغاً للخطوة الأكبر والأهم في نظر إسرائيل وهي احتلال العراق؛ لتحقيق الحلم الإسرائيلي في المنطقة بأيدي الأمريكان الذين تسيرهم الآلة الإعلامية الصهيونية في أمريكا نفسها.
هذه لعبة (الحرب ضد الإرهاب) مفتاحها الرئيس (الإنجازات المذهلة للدعاية) التي تهمش الرأي العام، وتصف الجماهير بالرعاع، وتشتت انتباهها عن الحقيقة؛ لتبقى (الديموقراطية) محققة لمصالح المتنفذين في أمريكا وإسرائيل!!
|