|
انت في
|
| ||||||||
كنا قد تحدثنا فيما مضى عن الأعلام ودورهم الفعّال داخل نطاق القبيلة وخارجها، وهذا ما سيتضح لنا في ثنايا الحديث عن علمنا في هذه السطور وهو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي نسبة لتغلب بن وائل، يكنى ب(أبي الأسود) (1) وقيل (أبو عمير)(2)، وهو الشاعر الجاهلي المشهور، وأحد شعراء المعلقات السبع، ولسان تغلب كما وصفه بذلك الرواة، وصدق الرواة بما وصفوا؛ لأنه التغلبي الذي خلد ذكر تغلب وسجل مفاخرها في معلقته الشهيرة التي يقول في أول أبياتها:
ويشك بعض الرواة في هذه القصيدة، أقالها عمرو بن كلثوم أم قالها عمرو بن عدي، ويرون أنها لعمرو بن كلثوم إذا بدأت بالأبيات السابقة الذكر، ويرى آخرون أنها لعمرو بن عدي إذا بدأت ب:
كما ذكر ذلك أحد الرواة، رغم ثبوتها في جميع المراجع الأدبية أنها لعمرو بن كلثوم، وإضافة إلى كون عمرو بن كلثوم شاعراً، فهو أيضا فارسٌ مقدم سيدٌ فتاك (4)، قال الفرزدق في رثاء ابنيه:
وربما ورث ذلك من جده مهلهل بن ربيعة التغلبي (6)، حيث ان ليلى بنت المهلهل أمٌ لعمرو بن كلثوم، والجدير بالذكر ان جده المهلهل أيضا خالٌ لامرئ القيس الشاعر (7). وما يدل على قوته وبطشه قصته مع الملك عمرو بن هند عندما فتك به فصار من ذلك مثلاً بين العرب فيقال (أفتك من عمرو بن كلثوم). وسبب ذلك ان عمرو بن هند صاحب الحيرة قال يوماً لجلسائه: هل تعلمون ان أحداً من العرب من أهل مملكتي يأنف ان تخدم أمه أمي؟ قالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه ليلى بنت مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل، وزوجها كلثوم، وابنها عمرو، فسكت مضرط الحجارة (9) على ما في نفسه، وبعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويأمره بأن تزور أمه ليلى أمه هند بنت الحارث (10). فقدم عمرو بن كلثوم في فرسان بني تغلب، ومعه أمه ليلى فنزل على شاطئ الفرات، وبلغ عمرو بن هند قدومه فأمر فضرب خيامه بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فصنع لهم طعاماً، ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق، وجلس هو وعمرو بن كلثوم وخواص أصحابه في السرادق وليلى أم عمرو بن كلثوم مع هند في القبّة، وقال مضرط الحجارة لأمه: إذا فرغ الناس من الطعام ولم يبق إلا الطرف فنحي خدمك عنك، فإذا دنا الطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء، ففعلت هند ما أمرها به ابنها، فلما استدعي الطرف قالت عند لليلى: ناوليني ذلك الطبق، فقالت، لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فألحت عليها، فقالت ليلى: واذلاه يا آل تغلب!، فسمعها ولدها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه، والقوم يشربون، فعرف عمرو بن هند الشر في وجهه، وثار ابن كلثوم إلى سيف ابن هند وهو معلق في السرادق وليس هناك سيف غيره فأخذه ثم ضرب بن رأس عمرو بن هند فقتله وخرج فنادى يا آل تغلب! فانتهبوا ماله وخيله وسبوا النساء وساروا فلحقوه بالحيرة (11)، وفي ذلك يقول ضمن أبيات معلقته:
وقد زاد عمرو بن كلثوم من الفخر في معلقته ورواها بنو تغلب صغاراً وكباراً حتى قال فيهم الشاعر:
الجدير بالذكر ان بعض الرواة الحاقدين على التاريخ العربي يرى بأن قصة عمرو بن كلثوم هذه ليست إلا أسطورة اختلقها العرب ضمن الأساطير الأخرى كما يقول، وما ذاك إلا ناتج من حقدٍ على تاريخ الأمة العربية الذي لا يكاد يحصى في آلافٍ مؤلفةٍ من المؤلفات التاريخية. خبره مع الحارث بن أبي شمر ومن محاسن أخبار عمرو بن كلثوم، خبره مع ملك غسان بالشام، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني، وذلك ان الحارث الغساني مر بأفاريق من تغلب، فلم يستقبلوه، وركب عمرو بن كلثوم فلقيه، فقال له: ما منع قومك ان يتلقوني؟ فقال: لم يعلموا بمرورك، فقال: لئن رجعت لأغزونهم غزوة تتركهم ايقاظاً لقدومي، فقال عمرو: ما استيقظ قومٌ قط إلا نبل رأيهم وعزة جماعتهم، فلا توقظن نائمهم. فقال: كأنك تتوعدني بهم، أما والله لتعلمن إذا أجالت غطاريف غسان الخيل في دياركم أن أيقاظ قومك سينامون نومة لا حلم فيها، تجتث أصولهم وينفى فلهم إلى اليابس الجدد والنازح الثمد. ثم رجع عمرو بن كلثوم عنه وجمع قومه وقال:
فلما عاد الحارث الأعرج غزا بني تغلب، فاقتتلوا واشتد القتال بينهم، ثم انهزم الحارث وبنو غسان وقتل أخو الحارث في عدد كثير، فقال عمرو بن كلثوم:
بعد هذه الأخبار لعمرو بن كلثوم لا نبالغ حين نصفه ب(قاهر الملوك) لفتكه بملك الحيرة عمرو بن هند اللخمي، وهزيمته لملك غسان الحارث بن أبي شمر الغساني. صفاته ووفاته كان عمرو بن كلثوم خطيباً حكيماً أوصى بنيه عند موته بوصية بليغة حسنة (16) فقد روي أنه لما حضرته الوفاة جمع بنيه حوله وقال لهم: يا بني قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولابد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت، وإني والله ما عيرتُ أحداً بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقاً فحقاً، وإن كان باطلاً فباطلاً، ومن سَبّ سُبّ فكفّوا عن الشتم فانه أسلم لكم، وأحسنوا جواريكم يُحْسِنَّ ثناءكم. وكما يروى ان عمرو بن كلثوم بلغ خمسين ومائة سنة من العمر ورأى من ولده وولد ولده خلفاً كثيراً (17). ولا أجد في نهاية الحديث عن عمرو بن كلثوم ووفاته إلا أن أختمه ببيت من أبياته حين قال:
الهوامش (1) ويشتهر بهذا اللقب أبو الأسود الدؤلي الكناني. (2) معجم الشعراء للمرزباني. (3) شرح المعلقات السبع للزوزني. (4) معجم الشعراء. (5) والأراقم لقب لتغلب، الكامل في اللغة والأدب للمبرد. (6) أبو ليلى المهلهل واسمه عديّ بن ربيعة المعروف بالزير سالم أخو كليب. (7) الشعر والشعراء لابن قتيبة. (8) مجمع الأمثال للميداني. (9) مضرط الحجارة لقب أطلقه العرب على عمرو بن هند لشدة ملكه وسلطانه وبطشه بالناس. المصدر السابق (10) هند بنت الحارث وهي عمة امرئ القيس الشاعر. (11) الكامل في التاريخ لابن الأثير. (12) شرح المعلقات السبع. (13) وفي مصادر أخرى بنو جشمٍ بدلاً من بني تغلب. الكامل في اللغة والأدب (14) شرح المعلقات السبع. (15) الكامل في التاريخ. (16) معجم الشعراء. (17) المصدر السابق. * باحث في التاريخ، المشرف على المنتدى الأدبي بمنتديات الوراقين
|
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |