|
انت في
|
ما أجمل الشعر حينما يصور لنا مشاهد من الواقع، أو من التأريخ، بعيدا عن المبالغة والغلو اللذين ينفر منهما الذوق السليم، والمدح الكاذب الذي يدفع إليه الطمع والمجاملة.. ما أجمله حين ينقل إلينا صورا حية من التأريخ الإسلامي المجيد الذي كاد النسيان والإهمال أن يجعلانا بعيدين عنه كل البعد. والشعر حينما يقوم بتلك (المهمة) يذكر بالماضي ليربطه بالحاضر؛ فيحيي مواتا ويوقظ قلوبا وضمائر، لتعلم أن الحياة الحقة: عقيدة وخلق وفضائل يكمل بعضها بعضا، ولتعلم كذلك أن الأمة ما عزت وعلا شأنها إلا حينما عنيت بتلك الثلاثة قبل عنايتها بالشهوات والمظاهر! لست أنكر ما للشعر في الأغراض المختلفة من جمال، ولكنني أقول إنه في مجال الواقع الصادق، والتصوير الجيد للحياة وأحداث التأريخ يكون أجمل وأروع وأقرب إلى النفوس وأعمق تأثيراً فيها.وقد عني الشعراء بهذا الفن من فنون الشعر عناية كبيرة في القديم والحديث، ولعل من أبرز من عني به وأبدع في تقديمه وإخراجه للناس الشاعر أحمد محرم - رحمه الله - وذلك في ملحمة (فجر الإسلام) التي تعد سفرا نفيساً، وديواناً جامعا خص به صاحبه سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم- من ميلاده وحتى وفاته، مرورا بالغزوات وبقية أحداث السيرة الأخرى.
ويروي ابن حجر عن الواقدي أن أبا خيثمة عاش إلى خلافة يزيد بن معاوية (*).أما زمن هذه الحادثة التي نعرض لها فهو: رجب سنة تسع من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومكانها: المدينة النبوية، ثم تبوك.وقصة أبي خيثمة مبسوطة في كتب التأريخ والسيرة النبوية.وقد أبدع الشاعر في نقل القصة شعراً بمهارة فائقة، وأسلوب سهل واضح جميل، يبقي أعمق الأثر في القارئ والسامع.. وقد جاء في مطلع القصيدة قوله:
هذا هو أبو خيثمة يقيم في مسكن فيه الظل والماء والطعام، ويحيط بذلك كله الأمن والطمأنينة!!.. وليس ذلك فقط، وإنما يضم مسكنه زوجتين حسناوين! وفي بستانه شتى الثمار قد أنيعت وحان قطافها:
ويمضي الشاعر في تصوير حال أبي خيثمة، نعم كثيرة يأتي في ذروتها الصحة والغنى، وصدق التوجه إلى الله تعالى.. فهل تقابل تلك النعم بالشكر القولي والفعلي أم بعكس ذلك؟.. وأن، وكيف يقف من يتمتع بها من داعي الجهاد؛ وهو يدعو إلى سفر بعيد، وحر وتعب وقلة مؤنة.. يقول الشاعر:
وكانت غزوة تبوك في وقت نضوج الثمار، ومن ذهب فيها سيحرم نفسه لذة التمتع بثمار بستانه وقت قطفها!! وفي امتحان لصدق الرغبة فيما عند الله، والتضحية بشهوات الدنيا:
لا شك أن أبا خيثمة يؤمن بوجوب الجهاد، ويؤمن بعظم أجر المجاهدين، وما ذلك إلا لما يلاقونه من شدة الحر وشدة البرد، ومفارقة الأهل والمال، ومفارقة الثمار اليانعة والفرش الوثيرة، واستبدال كل ذلك بالغربة والخشونة والخوف.. فالعدو ينشر جواسيسه في كل جهة، ويصوب سهامه من كل ناحية، وعندها لا يدري المجاهد من أين يأتيه الخطر.. وما دام أبو خيثمة - رضي الله عنه - يدرك ذلك وقد أعد نفسه له فلماذا تأخر في الخروج وتلبية نداء الجهاد؟!
وصف دقيق للصراع النفسي عند بطل هذه القصة وفارسها.. موقف حيرة وتردد بين داعيين: أولهما: الاستجابة لرغبة النفس في الكسل وحب الراحة، وتلمس الأعذار عن الجهاد، وثانيهما: الاستجابة لنوازع الإيمان الصادق الحي التي تهتف به.. لقد عاهدت الله على نصرة دينه والتضحية في سبيله بالغالي والرخيص، ولقد علمت أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فإياك إياك أن تفوت الفرصة فتندم حين لا ينفع الندم. ثم انظر إلى المقارنة في الأبيات بين سفساف هذا الثرى، الشهوات بشتى أصنافها ونسبها إلى التراب للدلالة على حقارتها، وبين الزحف والحصون والسيوف.. شتان شتان!!ويحسم أبو خيثمة الأمر بأن يقرر اللحاق بالركب النبوي الكريم، ذلك حينما انتصر داعي العقل على داعي الهوى، وانتصر الحق على الباطل في ذات فارس القصة - رضي الله عنه - ويحزم أمتعته على عجل ويحث الخطا كي يلحق بالفاتحين في جيش المصطفى صلى الله عليه وسلم.والمشهد الآن في تبوك: الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحيط به أصحابه ويظهر لهم في الأفق جسم يتحرك، ويبدأ الحوار والجدل.. فمن قائل: إنه رجل تائه اهتدى إلى أهله، ومن قائل إنه أخ يبحث عن إخوانه ورفاقه، ومن ومن.. أما محمد بن عبدالله، الرحيم الحريص على هداية أصحابه وعلو شأنهم - عليه صلوات الله وسلامه - فإنه مازال ينتظر صاحبه أبا خيثمة، ولذلك قطع ظنون جلسائه بقوله: (كن أبا خيثمة).. ثم يتضح الأمر للصحابة بأن القادم أبو خيثمة!
حوار هذا الفارس مع نفسه، فيه العتاب والمحاسبة: هل يليق بي ما أنا عليه من تخلف، وهل مازالت الفرصة بيدي للحاق بالركب المبارك.. ماذا يقول داعي الحق والعقل والإنصاف:
إن قلباً يعمره الإيمان لا يمكن أن يشغله عن الله شيء، وإن هبت عليه رياح الشهوات، وتزينت له ملذات الدنيا، أو حوفّه الشيطان وأعوانه، فسرعان ما يهتف به ضميره، وتصرخ به كوامن الفطرة أن احذر وانتبه، فينقشع عنه ظلام الباطل، ويكون إيمانه ريحا طيبة تُجلي بصيرته وتغسل عنها غبار الدنيا وشهواتها، وعندها يكون شجاعا لا يخشى في الله لومة لائم.. وهذا واحد من الدروس المستفادة من قصة أبي خيثمة التي نقلتها لنا ريشة وموهبة الشاعر محمد الحسناوي في هذه الأبيات. رضي الله عن أبي خيثمة وأرضاه وحشرنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.وإذا ما عدنا إلى القصيدة، وجدنا أن مقومات التفوق والنجاح قد اجتمعت للشاعر فيها؛ فالقصيدة من الشعر العمودي الفصيح، اختار لها الشاعر البحر المديد وحرف الروي الميم وبعدها الهاء الساكنة، وإذا كان الغرض فيها سامياً ونبيلا، وعاطفة الشاعر في نقله صادقة، فإن المعاني والألفاظ جاءت مختارة اختيارا مناسبا؛ فالمعاني حافلة بنقل الحدث من النثر إلى الشعر دون مبالغة تخرجه عن الواقع وتبعده عنه، وكذلك كان الخيال في القصيدة، أما الألفاظ فكان المقام يقتضي سهولتها ووضوحها؛ لأن الخطاب بها موجه للقراء على اختلاف مستوياتهم وثقافاتهم.. فلابد من السهولة والوضوح لتؤدي القصيدة غرضها، وكان لابد من البعد عن الجزالة في الألفاظ، لأن ذلك يجلب الملل لدى السامع والقارئ، ويفقده التلذذ بفصول القصة وأحداثها؛ لأنه لن يفهم كثيرا من ألفاظها!.ولأن كل عمل لا يخلو من النقص والقصور، فإن لنا على القصيدة ملحوظات يسيرة منها: قوله (وسواك اليوم في مشأمه)، فلو اختار الشاعر لفظا سوى هذا اللفظ لكان أولى.. فلا يليق أن توصف حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في تبوك ب(المشأمة)! ومما يلاحظ كذلك في هذه القصيدة أن الشاعر لم يُشِرْ من قريب ولا من بعيد الى أن أبا خيثمة واحد من عدد كثير من الناس تخلفوا عن غزوة تبوك، منهم المؤمنون الصادقون المعذورون ومن غير المعذورين، ومنهم المنافقون.. وكان جميلا لو أن الشاعر أشار إلى ذلك ولو تلميحاً!(16).هذا وإن مما ينبغي التأكيد عليه هو أن أمام شعراء الأصالة فرصة ثمينة لإبراز الوجه المشرق لتأريخنا الإسلامي بنظم غرر القصائد المصورة لأحداثه.. وقد ضرب في هذا الجانب عدد من الشعراء بسهم وافر.. ومنهم أحمد محرم كما أشرنا إلى ذلك وشاعرنا محمد الحسناوي، ومنهم كذلك حافظ إبراهيم في قصيدته في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعدد أبياتها 186 بيتاً ومطلعها:
ومن الشعراء الذين نظموا في أحداث السيرة النبوية الدكتور يوسف أبو هلالة، وله في ذلك ديوان بعنوان (قراءة في معركة أحد) وعدد أبياته 213 بيتاً. ومن الشعراء الذين عنوا بالتأريخ الإسلامي في شعرهم الدكتور عدنان النحوي، وله في ذلك ملحمتان؛ الأولى بعنوان (ملحمة فلسطين) وهي مجموعة قصائد، والثانية: ملحمة الأقصى، وهي تسجيل لتأريخ المسجد الأقصى والصراع حوله بين الحق والباطل على مر التأريخ.. وقد ذكر الشاعر أن عدد أبيات هذه الملحمة 375 بيتا، وملحق بها أبيات أخرى في الموضوع نفسه. أما شاعر قصيدة (أبي خيثمة) فهو محمد محمود الحسناوي ولد عام 1938م في سوريا، وعمل مدرسا في عدد من المدارس الثانوية في حلب. له دواوين منها: ربيع الوحدة، وفي غيابة الجب، وعودة الغائب، وملحمة النور كما أسلفنا وفي ملحمة النور نجد القصائد: 1- الإسراء والمعراج 42 بيتاً. 2- عبدالله بن أم مكتوم 112 بيتاً. ولعله يتيسر لنا عرضها مستقبلا بإذن الله تعالى. 3- سراقة بن مالك 41 بيتاً. 4- يوم بدر 61 بيتاً. 5- أبو خيثمة 48 بيتاً. 6- كعب بن مالك 70 بيتاً. وقد طبع الديوان ط1 سنة 1394هـ 1974م. لدى دار القلم - دمشق - بيروت(17). إن تلك الدواوين وأمثالها مما عني بالتأريخ الإسلامي جديرة بالعناية والاهتمام، وأن يكون لها مكان في المناهج الدراسية والرسائل العلمية وغيرها. وفَّقَ الله العاملين المخلصين، ويسر للشعراء سبل الهداية والسمو بمواهبهم إلى مواطن العز لهم ولأمتهم. الهوامش (*) الإصابة ج7 ص53 ترجمة رقم 356 في كتاب الكُنَى. 1- مأكمة: الأكمة: التلّ، والمأكمة مكان تكثر فيه الأكمات. 2- المغلمة: من الغُلمة أي الشهوة، وقبله عريت أفراسه: مَثَلٌ ومعناه: تر الصبا وتركب الركوب فيه. 3- فدَّمه: قبَّله واستعملت هنا على سبيل المجاز، وأعل وتعلل: تلهى. 4- مقصف: كلمة محدثة ومعناها هنا: مائدة الأكل والشرب فيها من كل ما لذ وطاب، وهي بكسر الصاد. 5- الهينمة: الصوت الخفي. 6- اللظى المضرمة: الحر الشديد. 7- الأرقم: الحية التي فيها سواد وبياض، ولعل الشاعر يقصد هنا: عيون العدو. 8- عندمه: أنامله الحمر كالعندم. 9- التمتمة: التردد في حرف التاء.. والمقصود به هنا صوت غير واضح. 10- الحجا: العقل. 11- الزمزمة: صوت الرعد. 12- ثاب: رجع إلى مكان واضح ظهر له. 13- بحبوحة الدار: وسطها بضم الباءين. 14- نبأة: صوت. 15- وافاهم: وصل عندهم. وقد قطع الطريق بين المدينة وتبوك بمفرده - رضي الله عنه -. 16- ومما يلاحظ على الشاعر، رغم ما ذكرناه عنه من حسن اختيار للألفاظ، وتنسيق للمعاني، فرغم ذلك أورد ألفاظا لم أجد فيما بين يدي من مراجع معاني لها في الفصحى ومنها: سمسمه، ومقصف، و تسمر.. وغيرها. من مراجع هذا البحث الموجز أ- السيرة النبوية لابن هشام، محقق ج4 ص520 ب- المغازي لمحمد بن عمر الواقدي ج3 ص998 طبع عالم الكتب - بيروت. ج- حياة الصحابة لمحمد يوسف الكاندهلوي ج1 ص682ط 1388هـ دار القلم دمشق - بيروت. د- البداية والنهاية لابن كثير ج5 ص7 ط مكتبة المعارف - بيروت. هـ- فتح الباري لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني ج8 ص119 و- شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ج4 ص48 ز- زاد المعاد لابن قيم الجوزية ج3 ص530 عرض وتعليق /عبدالعزيز بن صالح العسكر
ص.ب: 190 -الدلم 11992 |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |