أتمنَّى، في هذه الكلمة التأبينية، أن أكون مؤهلاً للحديث عن شخصية نضالية علمية مثل شخصية الدكتور العجلاني, أحد رجال عهد الاستقلال في سوريا الشقيقة، وآخر من رحل منهم إلى جوار ربه بعد عمر طويل ناهز السادسة والتسعين من العمر!!
ويهمني في هذه الكلمة الحديث عنه من خلال اطلالته في الأفق السعودي وما قدمه لبلده الثاني من إسهام ثقافي عندما اختاره الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز ليكون كبير المستشارين في وزارة المعارف, ثم من خلال مؤلفاته العديدة واصداره لمطبوعته (المجلة العربية).. تلك المجلة الشهرية الثقافية التي أنشأها ورأس تحريرها سنة 1395هـ شهر اغسطس 1975م بأمر وتمويل من حكومة المملكة العربية السعودية، تماشياً مع حسن التعاطف للعلوم والآداب والفكر والثقافة، في إطار المشاريع العربية والإسلامية التي دأبت المملكة على دعمها وإهدائها للأخوة الأشقاء من العرب والمسلمين, ولأبناء الأمة عامة!!
وقد أرادتها المملكة أن تكون في أول صدورها رسالة بعث عامة, ليقوم من يكتب فيها- من رجال القلم المشاهير- بالمشاركة بقوة في نشر الثقافة, ولتكون تلك المجلة منبراً مشتركاً, يبتعد قليلاً عن الطابع الاقليمي، وساحة تصول وتجول فيها الأقلام المشهورة من الاقاليم الأخرى, على غرار مجلة العربي في الكويت, ومجلات أخرى في مصر والعراق!!
وُكِّلَتْ مهمة إصدار تلك المطبوعة من رئيس الدولة إلى وزير المعارف الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ -رحمه الله- فقام بدوره باختيار معالي الدكتور العجلاني ليكون رئيساً لتحريرها.. وسارت في ذلك الاتجاه الذي رسم لها منذ ذلك الحين وحتى اليوم!!
لقد عاش بيننا معالي الدكتور العجلاني، الاستاذ ذو الكرسي في جامعة دمشق وعضو مجمع اللغة العربية في دمشق ووزير الاعلام والمعارف والعدل والمناضل العربي، الذي ظل يناضل في الساحة ضد الاستعمار في بلاده حتى سجن وصودرت أملاكه في سبيل دفاعه عن قضيته.
عاش بيننا ذلك العلم في وطنه الثاني المملكة العربية السعودية لأكثر من أربعين عاماً يعمل ويعطي ويقدم, رغم الصعاب التي جلبها له تواضعه الجم.. وكان أشرس تلك الصعاب ما لقيه من أشخاص ظلوا أبداً يريدون أن يكونوا وحدهم في دائرة الضوء.. لكن الدكتور العالم المثقف رغم تواضعه ونكرانه للذات أبى إلا أن يتفادى الصدام ما أمكنه ذلك!!
حلَّ الدكتور منير العجلاني ضيفاً مكرماً على قيادة هذه البلاد قبل أربعين عاماً من وفاته ليكون محل تقدير واحترام من القيادة، التي تعودت ان تستقبل في قلعة العروبة والإسلام أمثاله ممن قدموا لأمتهم ودينهم ما استطاعوا تقديمه, وباعتباره مجاهداً, وعلماً من أعلام الثقافة ومن رواد النهضة في العصر الحديث.. لذلك، وتقديراً منه لذلك الاستقبال قدَّم قسطاً موفوراً من عطائه.. وأستطيع أن أقول: إننا ومن هذا المنظور أخذنا منه أكثر مما أعطيناه -رحمه الله-.. عاش بيننا الجزء الأخير من حياته مستشاراً وموجهاً محباً لهذه الأرض ولشعبها.. ولا عجب، فقد ولد من أسرة عربية عريقة, توارث أفرادها نقابة الإشراف في بلادهم سوريا.. فقد ترك جده الأول الشريف عجلان بن محمد وطنه الأصلي في ربوع الحجاز, ثم استقر في بلاد الشام مروراً بمصر, ونسبت أسرة العجلاني إلى اسم ذلك الجد القديم!!
ففقيدنا وُلد في دمشق في حدود 1908م -1326هـ.. وبعد ان شبَّ عن الطوق وأكمل دراسته الأولية واصل تعليمه حتى حصل على الدكتوراه في الحقوق، وحصل على عدة شهادات أخرى من السوربون في فرنسا, وعاد ليعمل استاذاً في جامعة دمشق التي تولَّى رئاستها فيما بعد.. وفي غضون ذلك اختير عضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق, وعرف بأعماله الفكرية المميزة.. وكتب بحوثاً قيمة ودراسات فياضة في الكثير من الصحف والمجلات العربية.
وكان لمؤلفه الشهير (عبقرية الاسلام في أصول الحكم) وكتابه (الحقوق الدستورية) شهرة في العالم العربي.. أما كتبه في الأدب والقصة والتاريخ فأشهر من أن تذكر.
ومن مناصبه الرفيعة في بلاده: توليه رئاسة الوزراء بالنيابة, ووصف بالهدوء والسكينة في تصرفه الظاهر والشدة والعناد في المعارضة.. لذلك لم تغره العروض الكثيرة التي قدمت له ليشارك في المسئولية تحت ظل عدد من الحكومات الانقلابية العسكرية, وعندما علا صوته, واشتدت معارضته لدغته أنياب الأفاعي المتسلطة, ولفقت له عدة اتهامات أجري له على أثرها العديد من المحاكمات, وسجن واضطهد, وصودرت أمواله.. وكان ذا جدة متوارثة!!
وعندما أطلق سراحه لم يرَ بداً من التوجه إلى رحاب قلعة العرب والمسلمين, وكان على علم يقين بأن هذا هو الملاذ -بعد الله- لأبناء العروبة والإسلام, لاسيما وقد كان قديماً على صلة بأبناء وطنه الذين فروا من الاضطهاد, وحرموا نعمة الحرية أثناء الاستعمار الفرنسي والحكم الجائر الذي لحق بأولئك الرجال, فقصدوا عرين الأسد الملك عبدالعزيز لينعموا بالحرية والطمأنينة والأمان ويساندوا القائد العربي في فكره التوحيدي الوحدوي, فكان أن ساواهم في الإعزاز والإكرام بغيرهم من المواطنين, فبقي من بقي منهم حتى التقط انفاسه ثم رجع إلى بلاده ليواصل جهاده, ومنهم من استبقتهم البلاد لحاجتها إليهم.
وسار خلفاء عبدالعزيز على منواله.. فقوبل القادم الجديد الدكتور منير العجلاني بالترحيب والإكبار في عهد الملك فيصل.. وبالنظر لقدرات هذا الرجل العلمية والتربوية.. طلب منه أن ينضم إلى وزارة المعارف ليكون مستشاراً فنياً، فشارك باخلاص وبذل العديد من الجهد في النهوض بتلك المؤسسة العلمية ضمن الناهضين بها من ابنائها.. وكان يقدم الاقتراح تلو الاقتراح, والتقرير تالياً للتقرير عبر القنوات الرسمية إلى القيادة.. وكان من نتائج افكاره المتوقدة وضع اللمسات الأولى في إنشاء دارة الملك عبدالعزيز، كما كان لبصماته الموفقة ما تحمله الكثير من الأنظمة واللوائح في مجال التربية والتعليم!!
وفي مجال شغفه بالاطلاع على تاريخ البلاد أدرك، كما أدرك غيره، مدى النقص الحاد في مصادر تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية, فقدم للوزير المرحوم الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف -حينها- مشروعاً لتلافي النقص الكبير الحاصل في تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية.. وعزا الدكتور العجلاني ان ذلك النقص كان نتيجة الإهمال وعدم الاهتمام إضافة إلى الضياع والدمار الذي خلفه الغزاة عند اجتياحهم لإمكانيات البلاد أواخر عصر الدولة السعودية الأولى, وأثناء عصر الدولة السعودية الثانية.. وأضاف -رحمه الله- أن مكونات ذلك التاريخ وخاماته الأساسية متوافرة وإنما الشأن الذي ينبغي عمله هو التنسيق والبحث المتواصل عن المراجع والوثائق والمدونات المطمورة في الداخل أو الخارج!!
وذكر العجلاني بما قام به الملك عبدالعزيز إبان فترة حكمه من تشجيع لمن حوله من القادرين على تدوين التاريخ، على أن يأخذوا بزمام المبادرة, وإبراز ما هو مدون في المخطوطات المتداولة على قلتها -آنذاك- وضم تلك المعلومات إلى فترة حكمه السعيد, لتكون تلك الأعمال مرجعاً تاريخياً موثوقاً لفترة حكمه, وصلة حاضرة بماضيه.
وعندما نضجت تلك الفكرة كُلِّفَ الدكتور العجلاني -الكاتب والصحفي المرموق- بمهمة تدوين تاريخ الأئمة السعوديين في الدولة السعودية الأولى لسد النقص الواقع في تاريخ تلك الفترة التي لم تفز باهتمام المؤرخين لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها الإهمال وقلة المختصين آنذاك.
وكان لتشجيع الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز الأثر الكبير في إنجاز الدكتور العجلاني لذلك العمل الضخم الذي تم بكل إتقان ومهنية فذة إلى جانب سيرة مفصلة بما وضع تحت يده من المراجع المحلية، ثم ما حصل عليه بالارتحال في طلب المراجع النادرة, حيث قام بعدة جولات على عدد من المكتبات العامة والخاصة داخل البلاد وخارجها تساعده قدراته الفكرية واتقانه للكثير من اللغات الأجنبية لاسيما الفرنسية التي يجيد التحدث وإلقاء المحاضرات بها في المنتديات العلمية, وقد عثر أثناء بحثه على الكثير من الوثائق المفيدة إضافة إلى ما وضع بين يديه من وثائق أجنبية ومحلية تمتلكها الجهات المختصة.. قام باحضارها من مصادرها استاذ آخر بذل جهداً مشكوراً في هذا المضمار، حيث كلف بإحضارها من مظانها منذ زمن قديم وحتى مباشرة الدكتور العجلاني لإنجاز مشروعه التاريخي الكبير!!
كما أضاف الدكتور العجلاني إلى بحثه التاريخي الجيد انتقاء الحوادث التاريخية في الدولة السعودية المبثوثة في كتب المعارضة لإيضاح الصورة الحقيقية عن الأحداث وتصحيح ما يزعم توهمه.
لذلك لم يتردد في تصوير كتب المعارضة التي يوجد كثير منها في المتاحف الأجنبية التي تعنى بمثل تلك المدونات ولا تتوافر في غيرها!!
لذلك كانت كتب الدكتور العجلاني عن الأئمة الأربعة آية لم يسبق إلى صنعها من كتب عن تأسيس الدولة السعودية في الدرعية، حيث عرَّف الدكتور العجلاني بمراحل مكونات تلك الدولة وتحدث عن وحداتها وأسس دعوة الاصلاح فيها حتى أصبحت هذه الكتب الأربعة مرجعاً يومأ إليه في الحصول على المعلومات الوافرة عن تلك الفترة!!
ثم أتبع هذه الكتب الأربعة بكتابين، نقول -للحق والتاريخ- أنهما ليسا في مستوى الكتب الأربعة السابقة.. وهنا ينبغي أن نقول إن تلك الكتب الأربعة قوبلت من القلة أو فلنقل أثارت حفيظة من يعتقدون أنهم قادرون على إنجازها فيما لو توافرت الإمكانات التي توافرت للدكتور العجلاني!!
لذلك راحوا يتحدثون عن بعض الأخطاء القليلة -التي يصعب تلافيها في إنشاء عمل فكري ضخم مثل هذا العمل- وهي أخطاء لايتجاوز عددها أقل من أصابع اليد الواحدة.. وأسموها ملاحظات، وعندما بلغ المسئولين خبر تلك المقولة شكلت لجنة من بينها بعض من صدرت منهم تلك الدعوى, وكان أن خرجت تلك اللجنة بحصيلة من تلك الملاحظات, فدونها المؤلف في نهاية الجزء الأول, ودون رأيه حولها وختم بها كتابه حرصاً منه على الأمانة العلمية دونما تشنج منه أو ادعاء بأنه هو الذي يملك الحقيقة وحده!!
كان الدكتور العجلاني -رحمه الله- قد أتيح له ان يحضر الكثير من مجالس الملك فيصل فيستمع إلى أحاديثه وربما ألقى عليه بعض الأسئلة فيجبه الملك فيصل عنها بتبسط, ومن هنا عَنَّ له أن يؤلف كتاباً عن سيرة الملك فيصل يعبر فيه الدكتور العجلاني عن إعجابه الشديد وانجذابه إليه, فكان ذلك كما -يقول العجلاني- كالنداء له بأن يسجل تلك السيرة؛ لأن حياة العظماء بمنزلة المدرسة للأفراد..
فكان أن تناول في كتاب ضخم وعبر عن جانب من جوانب حياة ذلك العبقري, وعن طائفة من أعماله وآرائه مستمداً ما يكتب من أحاديثه العامة وخطبه, ومن سيرته وثقافته, ومكانته في البيت السعودي.. وبعد ان سرد عدة فصول عن حياة الملك فيصل ومشاركاته في بناء دولة والده.. تحدث عن شكل الدولة السعودية وأنظمتها الإدارية والقضائية, وقارن في ذلك الكتاب بين مزايا الحكم الملكي والجمهوري، مضيفاً إلى كل ذلك تطور نظام الحكم والسلطة ونظام مجلس الوزراء وحقوق الإنسان في المملكة وعلاقاتها بالجوار وبالسياسة الخارجية.. فكان الكتاب في جملته وصفاً حقيقياً، وإن بدا للآخرين في شكله بأنه ثناء ومديح.. وحتى وإن بدا كذلك، فمن أحق بالثناء والإعجاب من ذلك الملك العظيم؟!
ترك الدكتور العجلاني، بالإضافة إلى كتبه المطبوعة المتداولة، عدداً من الكتب في غاية الأهمية لم تطبع بعد هي كتاب (دراسة وتوثيق عن الخليفة معاوية بن أبي سفيان) وكتابان آخران أحدهما عن (ابن خلدون) والثاني عن (خالد بن صفوان)، و(ديوان شعر) وكتاب (الأسطول الإسلامي)...
وغير ذلك من المؤلفات التي لم ترَ النور بعد.
وسيظل عطاء الدكتور الفكري والعلمي لسان ذكرى لحياته ورحيله في بلده ومسقط رأسه, كما في بلده الثاني الذي رضي أن يقضي آخر حياته في ربوعه وبين ظهراني سكانه ومحبيه.
تغمده الله بواسع رحمته, وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان.
|