نجدهم في كل مكان، يتناولون كل موضوع، ويتحدثون في كل قضية، ويفتون في كثير من المسائل فتاوى من يظن أنَّه عالم.
كنت جالساً مع أحدهم في مكان عام، ولم أكن مستعداً في ذلك الوقت للكلام معه، لأنني كنت مشغول الذهن بأمور كثيرة، ولكنَّه فتح باب الحديث معي حينما رأى سائقاً يلاعب طفلاً في إحدى السيارات، حيث قال لي: انظر إلى ذلك الفلبيني يلاعب ذلك الطفل في السيارات، إنها كارثة كبيرة، لقد رأيت أم ذلك الطفل تنزل من السيارة متجهة إلى المتجر، وتركت هذا الطفل البريء مع هذا السائق الخبيث.
قلت له: وما أدراك أنه خبيث؟، ويا ليتني لم أسأل فقد كانت فرصة كبيرة له أن يتحدَّث بلا توقف، فقال: الله أكبر، إنه خبيث ابن خبيث، أما ترى رأسه قد أصبح مثل الورقة الملوَّنة، هؤلاء السائقون فيهم خبث ونجاسة، واعتداء على الأطفال وعلى بعض النساء، وهم يتفقون مع بعضهم لترويج الفساد، والناس عنهم غافلون، ثم التفت إليَّ بوجهه وقال: تريد أن أقصّ عليك مئات القصص التي تحدث من مثل هذا الخبيث؟، قلت له: لا أريد فأنا مشغول بالتفكير في بعض الأمور التي تخصُّني، قال: أي أمور تخصك يا أخي؟ إنَّ الكارثة كبيرة وتقول (أمور تخصُّني)؟ أما ترى ذلك الفلبيني لا يزال يلاعب ذلك الطفل الصغير؟ أما تلاحظ أنَّ الأم قد دخلت إلى المتجر ولم تخرج؟ (إنها تتسوَّق على راحتها) وقد ألقت بطفلها البريء بين يدي هذا السائق الخبيث، هل تعلم أن العلاج لهذه الحالة المؤسفة هو قيادة المرأة السيارة، لأنها ستريحنا من هؤلاء السائقين الذين يعيثون في البلاد فساداً. لو كانت هذه المرأة التي دخلت إلى المتجر منذ نصف ساعة ولم تخرج منه إلى الآن، وقد ألقت بابنها بين يدي هذا الوحش الفلبيني، تقود سيارتها بنفسها لما حدثت هذه المشكلة، ألست معي في هذا؟
قلت له: لست معك في هذا فأنت تلقي بالكلام على عواهنه دون ترتيب ولا ضوابط، وهذه المسائل لا تناقش بهذه الصورة، إنما أنا معك في إهمال وضع السائقين عند كثير من الأسر والإفراط في الثقة بهم.
قال: ماذا تقصد بكلامك هذا؟ هل تعتقد أنَّ قيادة المرأة السيارة حرام، وهل عندك دليل على ذلك؟ إنها حلال يا أخي ولكنكم تحرمون على هواكم، هل تعلم أن الاستغناء عن السائقين سيوفِّر علينا مبالغ كبيرة؟ والتوفير مطلوب شرعاً، والله سبحانه وتعالى نهانا عن التبذير في آيات من القرآن الكريم، لا أذكرها الآن لأنني لا أحفظ من القرآن إلا القليل، كما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أحاديث تغيب عن ذاكرتي الآن، نعم يا أخي قيادة المرأة السيارة جائزة، فهي مثل قيادتها الجمل والحمار، ألست معي في هذا؟
قلت له: لست معك فيما تقول، ولا في طريقتك في الكلام، ولا في هذه الفتاوى العظيمة التي تطلقها وأنت لا تحفظ من القرآن إلا القليل, ولا تكاد تحفظ شيئاً من الأحاديث.
وحينما ودَّعته قال: العلم ليس وقفاً على من حفظ آيتين وحديثين، ولكنَّ العلم هو تجارب الحياة، فتركته دون أن أدخل معه في نقاش.
لقد ذكرني هذا الرجل برجل اسمه أبوعقيل كان يقيم بمدينة الرَّقة يحدِّث الناس عن بني إسرائيل، فقال له الحجاج بن حنتمة: ما كان اسم بقرة بني إسرائيل؟
قال: كان اسمها حنتمة، فضحك الحجاج. وقال: في أي الكتب وجدت هذا؟
قال: في كتاب عمرو بن العاصي، وكأني بالحجاج يقول: من أين لك هذا العلم العجيب؟
كما ذكَّرني بقصَّة واعظٍ أعمى كان في البصرة، كان لا يحفظ إلا حديثاً واحداً يحدِّث به الناس دائماً، وكان جيِّد الوعظ، يؤثر في بعض العوام، وقد اشتهر بين الناس بأنه واعظ الحديث الواحد، وكان يعظ الناس ذات يوم، فرأى بعض العوام يبكون، فقال لهم متأثراً: ما الذي يبكيكم؟ إنما البكاء لنا نحن معاشر العلماء.
كم في مجتمعاتنا ووسائل إعلامنا من علماء بلا علم، يخوضون هذه الأيام في مسائل مصيرية خوضاً لا يُزيل مشكلة ولا يجلب حَلاً ولا ينفع الناس، وإنما هي آراء عامة تُلْقَى على عواهنها؛ لأنَّ الساحة العلمية قد فتحت للجميع دون ضوابط علمية.
إنها حالةٌ من الفوضى في مجال (الفتوى العامة) و(الخوض في المسائل بلا علم) تحتاج منا إلى موقفٍ صحيح يعيد الأمور إلى نصابها.
إشارة:
سئمت تعالُمَ الجهلاء فينا
وتزييفَ الثقافةِ والفنونِ |
|