عندما كنت طالباً في المتوسطة كان لدينا أستاذ لغة عربية يكرر على مسامعنا قوله إن الكتابة ربعها فكرة والثلاثة الأرباع الأخرى أسلوب، وهذا يعني أن الأسلوب أهم من الفكرة لأن الكاتب هو الأسلوب كما يقول الفرنسيون. هذه النصائح الفنية لم تكن تعني لي كثيراً أيامها لأني لم أكن أفهم ما يعنيه أن يكون الأسلوب هو الكاتب. كنت صغيراً في السن وأفكر بطريقة فجة وبسيطة، كنت أعتقد أن الفكرة هي الأساس. فإذا كان لديك فكرة فأنت فعلاً كاتب وإذا لم يكن لديك فكرة فعليك أن تنتظر حتى تأتي الفكرة وتكتب. بعد سنوات اكتشفت أن هذا غير صحيح. لو كان الأمر كذلك لما نشأ كتَّاب أعمدة في الصحف يكتبون بشكل يومي ومستمر.
ولكن إذا لم يكن عند الإنسان فكرة كيف يكتب؟ سؤال يبدو وجيهاً.. بعد مناورات كثيرة مع القلم والورقة تبيَّن لي أن من يطرح مثل هذا السؤال هو القارئ أو الكاتب غير المحترف.
منذ سبع سنوات وأنا أكتب بشكل شبه يومي. في كل مرة أجلس على طاولة الكتابة أشعر ببعض الإحباط لأني جلست وليس في رأسي شيء سوف أكتب عنه، ما الذي علي أن أقوله اليوم للناس؟ سؤال أصبح مألوفاً إلى درجة أني نسيته.
في مكتبي كما في مكتب أي كاتب هناك أشياء لا حصر لها من الأشياء: أوراق، صحف، صور، نافذة، باب، أجهزة كهربائية، أشجار داخلية. أتأمل في هذه الأشياء جيداً لعلها تبوح بما يجب أن أقوله اليوم. وإذا لم تنشط هذه الأشياء بما فيه الكفاية في رأسي، فرأسي مليء بالأحداث والذكريات والمعلومات والأحزان والحزازات . هذا الخليط يتغير في دماغي بشكل يومي. فكل يوم لدي مشاعر جديدة وإحساس مختلف تجاه العالم. ولأني لم أكن في يوم من الأيام منتسبا لأي تجمع فكري أو ثقافي ولم أرهن نفسي لأي أيدلوجية ثابتة, تصبح هذه الأشياء طازجة ومتغيِّرة يومياً.
بعد سبع سنوات من الكتابة المستمرة اكتشفت أن هذه الأشياء هي المادة الوحيدة التي تشكِّل لحمة الكتابة على الأقل بالنسبة لي. فهذه الأشياء المزدحمة في رأسي تتحول بالتفكير المنظَّم إلى فكرة، عندئذ يمكن أن أدعي وأقول إن الكتابة في حد ذاتها هي عملية تفكير يتم من خلال بناء الفكرة. وهي تفكير أكثر هدوءاً من التفكير الحر والهواجس المعتادة، لأنك تستمر ساعة أو ساعة ونصف وأنت تريد أن تقول كلاماً لا يتجاوز حجمه صفحتي فولسكاب . إذاً ما الذي تفعله في ساعة ونصف لو كان لديك فكرة جاهزة. فالكاتب اليومي يعيد ترتيب الأشياء المزدحمة في رأسه كل يوم. يعيد بناءها من جديد حتى تأخذ شكلاً مقبولاً من الناس وبالتالي فالكاتب المحترف هو الذي يتمتع بأسلوب خاص به لأن طريقة تشكل الأشياء في دماغه لا تشبه أي طريقة أخرى، والمواد المزدحمة في رأسه تختلف عن المواد المزدحمة في رؤوس الآخرين. فأحزانه غير أحزان الآخرين أو على الأقل درجتها تختلف. وطالما أن ممتلكاته من المشاعر والرؤى تجاه العالم مختلفة بدرجة معينة عن الآخرين ولا بد أن طريقة تعبيره عنها تختلف عن تعبير الآخرين. من هنا ترى أن الكاتب الحقيقي له أسلوبه الذي يميِّزه عن الآخرين. والذي يجب أن يعرف به حتى لو لم يوقِّع على المقال.
هذه مقدمة لكلام آخر أريد أن أقوله بعد غد.
|