Saturday 3rd April,200411510العددالسبت 13 ,صفر 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

(طاقية) الإخفاء.. (طاقية) الإخفاء..
عبدالعزيز السماري

كل الدلائل تشير إلى أننا نمر في عصر استهلاكي غارق في خصوصيته، ومدهش في مفارقاته، ولو أراد مصمم اختيار (شعار) للاستهلاك أو كعلامة تدل على صورة تقريبية لهيئة المستهلك، لما وجد أفضل من شعار (مواطن) يلبس غترة وعقالا وثوبا، وإذا أردنا التحقق من مدى مطابقة هذا الرمز للواقع، فعلينا فقط التوقف عن الحركة للحظات، ثم إلقاء نظرة أفقية إلى مقطع جانبي يمر على جميع فئات المجتمع ومناطقه الجغرافية، وقد لا نحتاج إلى تلك الزاوية غير المرئية، فنظرة من إحدى النوافذ التي تطل على أحد المجمعات الصناعية الأهلية في المدن ربما تفي بالغرض، وترسم تلك الصورة غير الطبيعية عن الواقع المهني في المجتمع، عندها سنصل إلى حقيقة مؤلمة مفادها أن هناك سيطرة غير عادية للوافدين على سوق العمل بصورة غير مسبوقة ولعلها حالة فريدة من نوعها، وربما لم تمر من قبل على مجتمع بمثل هذه الكثافة في التاريخ البشري.
ويمكنا استثناء بعض المؤسسات والشركات الحكومية من ذلك، فالجهود الحكومية في المدن الصناعية في الجبيل وينبع، وتجربة أرامكو تثبت نجاح تجربة تحويل المجتمع من بيئة استهلاكية إلى بيئة منتجة، لكن ما يحدث في المدن الصناعية الأهلية في غير تلك المدن ينبئ أن الوضع مختلف تماماً، ويمر في حالة متقدمة من الهيمنة الوافدة على المهن المنتجة، فالتنسيق الذي نراه أحيانا بين (الكفيل) والوافد، و الاستغلال غير الإنساني بينهما في أحيان أخرى، وصل إلى مراحل أكثر تعقيدا من ذي قبل، فمثلا من أشهر النماذج التي تنتشر في أنحاء المجتمع أن يسرح الكفيل عمالته المدربة وغير المدربة في السوق المحلية، وينتظر عائد (الإتاوة) في آخر الشهر، ومع تقادم هذا الوضع استطاعت تلك العمالة الوافدة تشكيل شبكات ذات قدرات هائلة على المنافسة، مما يعني أن نجاح أي جهود رسمية لتنمية قدرات وطنية في الحرف المهنية يعد في ظل هذا الحال ضرباً من الإعجاز..
فالقوى العمالية الوافدة قدمت من مجتمعات تتوارث مهاراتها الحرفية أبا عن جد، إلى مجتمع يحتقر ويرفض الحرف اليدوية والمهنية، ويختار البطالة على أن يعمل أحدهم نجارا أو حدادا أو عامل بناء، ولعل مبنى المعهد الملكي الفني في شارع عمر بن الخطاب في الرياض، وغيرها من المعاهد الفنية في جميع أنحاء المملكة خير شاهد على ذلك، فتلك المعاهد يرتادها طلاب المهنية السعوديين منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتعلموا أثناء تدريبهم المهارات المهنية الفنية في الورش التعليمية، ومع ذلك لا يوجد للمتخرجين من تلك المعاهد أثر بين في سوق العمالة المحلية تماماً مثل الذي يبذر في مهب الريح..!، ربما كان استثمارا في المدينة الخطأ، فالرياض مدينة تحكي قصة صراع الأجيال بين القيم الصحراوية التي تمقت العمل اليدوي، وبين قيم الحضر التي اندثرت بفعل (طفرة) النفط، لكن إذا كان الأمر كذلك، كيف اختفى خريجو تلك المعاهد من سوق العمل في المناطق الأخرى..
كذلك تبرز صورة أخرى بين الكفيل السعودي الذي قرر أن يقود بنفسه إدارة الحرفيين المستوردين، وذلك في مهمة البحث عن أرباح خيالية سريعة، وبأضعاف مضاعفة لذلك الأجر الزهيد الذي يصرفه لعماله الأجانب في آخر الشهر، والملاحظ أن أغلبهم لا علاقة له بتلك المهن ، ولا يملك خلفية مهاراتها، مما يوحي أن هناك علاقة غير صحية بينهما، فالكفيل أو السيد لا يفهم في تفاصيل العمل أو الخدمات التي يقدمها، ولا يتجاوز هدفه الاستراتيجي غير الكسب المادي (الشره).
والضحية الآخر هو المستهلك السعودي، فبرغم من رخص العمالة المستوردة وقلة تكاليفها المادية، إلا أن الأسعار التي يطلبها الكفيل السعودي تقدر بعشرات أضعاف تكلفة الأيدي العاملة وأسعار الخام، وهو ما يعني في جانب آخر استحالة سعودة العمالة المهنية الحرة في السوق المحلية، فالقوى المنتجة التي يتزعمها (الكفلاء)، والتي رأسمالها العمالة الأجنبية، ستقف بكل ما أوتيت من قوة وتأثير في وجه التغيير (الضروري) للتخفيض من الأعداد المتضاعفة من الشباب العاطل عن العمل، ولن يجد المواطن إن قرر أن يكسر حاجز (العيب)، وأن يخوض التجربة العملية، مكانا له في غابة المدن الصناعية الجديدة..
فالمعركة شرسة للغاية بين أرباح التاجر السعودي الذي يدير عمالته الرخيصة، وبين منافسه الحرفي المستورد المتحرر من قيود الإداري الكفيل، هذا بالإضافة إلى أن العامل السعودي (إن وجد) لن يقبل بالأجر الزهيد الذي يقدمه التاجر السعودي، ولن يستطيع منافسة العامل الوافد المتحرر من إدارة (الكفيل)، كذلك لا يوجد في السوق المحلية قوانين تحمي حقوق العامل السعودي، ولا هيئة مستقلة للدفاع عن المستهلك، أو حمايته من أساليب استغلال جهله بما يحدث في السوق..
وحسب رؤيتي المتواضعة ما يحدث في سوق العمل أمر في غاية التحدي، فالمجتمع لا ينظر باحترام إلى (الحرفي)، ولا يرى فيه مستقبلا واعدا لأبنائه، والمعاهد المهنية أنتجت أجيالا من الخريجين، لكنهم اختفوا من سوق العمل، ولا توجد دراسات تبحث في أسباب تلك الظاهرة.. هذا بالإضافة إلى أولئك الذين يفضلون لأبنائهم إما راتبا متواضعا في وظيفة غير منتجة، أو يستمر (عاطلا) عن العمل، لكن يجيد مهارة التسول عند إشارات المرور، على أن يعمل ابنه مثلا في ورشة في الصناعية..
وقد يصل الأمر عند ذلك الشاب (العاطل)، أو المتوقف عن محاولة العمل إلى وضع مأساوي على أمن سكان المدينة، إذا قرر الانضمام إلى تلك القوافل المتحركة من السيارات، التي (تشق) غبار مدينة الرياض بعد منتصف الليل في كل عطلة نهاية الأسبوع، تخترق أنظمة المرور، وتخالف اتجاهات السير، وتعيد الكرّة مرات ومرات، ويضطر المواطنون إلى الوقوف على جانب الطريق إلى أن تمر القافلة بسلام، والتي تسير في اتجاه معاكس لكل مسارات التخطيط والتنمية والأنظمة في المجتمع السعودي، وإذا قدر لمصمم آخر أن يختار شعارا للمستقبل المجهول، فما عليه إلا أن يرسم صورة شاب يضع (طاقية) على مؤخرة رأسه، لكنها قادرة أن تخفيه عن (الأنظار)، وهو يقود سيارته بسرعة جنونية نحو الهاوية في قافلة التمرد المرعبة..!


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved