أسأل أي أم عن تلك الليالي التي قضتها دون نوم، قلقة ومهمومة، بسبب ارتفاع درجة حرارة طفلها، واسألها ايضاً عن المحاولات التي لا تعد ولا تحصى والتي قامت بها من أجل تخفيض الحمى وإرضاء ميزان الحرارة، عندها يصبح مصطلح الهلع من ارتفاع الحرارة مفسراً لنفسه بنفسه، فهو مصطلح يصف المخاوف التي لا يوجد لها اي مبرر علمي إنما تجد صداها لدى العديد من الآباء والأمهات عندما يبدأ مؤشر ميزان الحرارة بالتحرك صعوداً.
لقد قامت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال مؤخراً بإجراء دراسة بين الآباء والأمهات، وبينت هذه الدراسة أن 56% منهم يساوره الكثير من القلق حول الضرر المحتمل الذي يمكن أن تسببه الحمى في أطفالهم، واعتبر 44% منهم أن درجة 38.9 هي حرارة عالية، في حين كان الاعتقاد السائد لدى 7% من هؤلاء الآباء والأمهات أن درجة الحرارة يمكن أن تتجاوز 43.4 درجة مئوية إذا ما تركت دون علاج، وكان في اعتقاد 91% منهم أن الحمى يمكن أن تتسبب بتأثيرات ضارة تتضمن تلف الدماغ برأي 12% منهم، وربما الوفاة برأي 14% منهم.
ومما كان لافتاً للنظر في الدراسة أن 52% من هؤلاء الآباء والأمهات قالوا إنهم يقيسون درجة حرارة أطفالهم بصورة متكررة وعلى فترات لا تتجاوز الساعة الواحدة، إذ كانوا يعانون من ارتفاع في درجة الحرارة، كما أوردت نفس الدراسة أن 25% من الاهل أعطوا أطفالهم أدوية مخفضة للحرارة دون أن تتجاوز درجة الحرارة 37.8 درجة مئوية، كما أفاد 85% منهم بأنهم يوقظون أطفالهم من النوم لإعطائهم مخفضات الحرارة.
إن ما سبق يبين أنه حتى في أيامنا هذه، أيام التقدم والتطور الطبي، لا يزال الهلع وسوء الفهم يساور الآباء والأمهات عند ارتفاع درجة حرارة أطفالهم، إن حالة الرعب هذه تجعل من الصعب على الأهل أن يعرفوا متى يجب أن يقلقوا ومتى ينبغي أن يظلوا هادئين عندما تبدأ درجة الحرارة بالارتفاع.
إن ارتفاع درجة الحرارة عند الطفل تتصدر وبفارق شاسع الأسباب التي تجعل الأهل يقومون بمراجعة عيادة طبيب الأطفال، مع العلم بأن القلق الذي يساورهم نشأ بصورة جزئية عن اعتقادهم الخاطىء أن الحمى هي مرض (disease) وليست عرض (Symptom) أو علامة (Sign) على الإصابة بمرض.
إنما في الحقيقة أن ارتفاع درجة الحرارة هو ليس إلا علامة مرض من ضمن علامات عددية أخرى، وهذا الارتفاع بدرجة الحرارة لا يلحق بحد ذاته أي أذى بالطفل تقريباً، إن الحمى إنما هي علامة على محاربة الجسم للالتهاب، وهي استجابة الجسم الطبيعية للالتهابات، وتلعب دوراً رئيسياً في محاربتها، كما تشير إلى بدء جهاز المناعة لدى الطفل بالعمل. فارتفاع درجة حرارة الجسم يزيد الاستقلاب، وينتج خلايا تقاوم الالتهابات. ولقد لوحظ أن الفيروسات تتكسر على نحو سريع تحت المجهر في بيئة ذات درجة حرارة مرتفعة.
ومن الاعتقادات الخاطئة لدى العديد من الآباء والأمهات أن الحرارة المرتفعة امر خطير، وتؤدي إلى تلف في الدماغ أو النوبات الصرعية، وأنها تحتاج إلى المعالجة، علماً بأن الحمى تكون مصحوبة بحدوث تلف في الدماغ فقط إذا كانت ناتجة عن مصدر خارجي مثل الضربة الحرارية (Heat Stroke)، وليس صحيحاً أن الحمى تسبب تلفاً في الدماغ أو أي عضو آخر من الأعضاء، إلا أن هناك التهابات معينة، مثل التهاب السحايا، والتهاب الدماغ، يمكن أن يسببا تلفا في الدماغ، وهذا التلف يكون ناتجاً عن الالتهاب وليس الحمى، ويعاني 5% من العدد القليل من الأطفال الذين يصابون بالحمى من تشنج قصير الأمد يسمى الصرع الحموي، الذي ينتج عن سرعة الارتفاع في درجة الحرارة وليس الارتفاع نفسه، فقد بين الكثير من الدراسات أن معالجة الحمى بصورة مكثفة لا تمنع الإصابة بالصرع الحموي التي لا تعتبر خطيرة بالرغم من كونها مخيفة للآباء والأمهات، ولا يصاحبها أي تلف في الدماغ، أو انخفاض في عامل الذكاء، أو صعوبات تعليمية.
ويجب أن نتذكر أن أفضل مؤشر على مرض الطفل هو مستوى النشاط الذي يقوم به وسلوكه، فالطفل الذي تكون درجة حرارته 40 درجة مئوية، ولكن يبدو نشيطاً وطبيعياً يتمتع على الأرجح بصحة أفضل من طفل كسول، يرفض أن يأكل أو يشرب، يتنفس بسرعة ودرجة حرارة جسمه 38.4 درجة مئوية.
ويجب أن نتذكر كذلك أن المضادات الحيوية ليست أدوية للحمى، وهي أدوية يندر وصفها من قبل طبيب الطفل، وحين يصفها، فإنه يفعل ذلك لعلاج الالتهاب البكتيري فحسب (ويجب أن نتذكر أيضاً أن الفيروسات تسبب معظم الالتهابات في الأطفال، وليس للمضادات الحيوية أي دور كان نوعه في معالجة الالتهابات الفيروسية حتى إن كانت مصحوبة بدرجات حرارة تصل 41 درجة مئوية).
ما هي الأمور التي ينبغي القيام بها في حالة إصابة الطفل بالحمى؟
- الاتصال بالطبيب على الفور في حالة إصابة الطفل بالحمى، وكان عمره أقل من 3 أشهر، وذلك بالنظر لعدم نضوج جهاز المناعة لديه. ويجب الاتصال بالطبيب كذلك إذا كان الطفل يعاني من الحمى، وكان يصرخ دون وجود تفسير لذلك، أو كان من الصعوبة إيقاظه، أو لديه تيبس في العنق، أو ظهرت بقع بنفسجية اللون على جلده، أو كان لديه صعوبة في التنفس، أو يبدو مريضاً.
إعطاء الطفل كميات وافرة من السوائل، ونزع الملابس الثقيلة والبطانيات عنه لإبقاء جسمه معتدل البرودة، وإعطائه أدوية مضادة للحرارة إذا وصفها الطبيب له، وإذا كان يشعر بعدم الارتياح أو الضيق، (ويجب عدم إعطاء الأسبرين للطفل، لانه يمكن أن يؤدي إلى حدوث تلف في الدماغ أو الكبد لا قدر الله).
واخيراً، فإن ارتفاع درجة الحرارة وحده لا يستدعي العلاج، إنما يجب تشخيص وعلاج المرض الذي كان ارتفاع درجة الحرارة واحدا من علاماته ليس إلا، ويجب ألا يعاني الآباء والأمهات من الهلع من الحمى التي تساعد جهاز المناعة في الجسم على العمل بسرعة، كما أن درجات الحرارة العالية تثبط من تضاعف الجراثيم والفيروسات.
ومن الأهمية أن تتذكر الأم أنها الشخص الرئيس الذي يعرف طفله كما لا يعرفه أحد آخر، ويجب ألا يعتريها الهلع من الحمى التي يجب علاجها فقط لتحقيق الراحة للطفل، ويجب عدم الإفراط في علاجها إذا كان الطفل سعيداً.
إن استمرار الهلع من ارتفاع درجة الحرارة لدى الآباء والأمهات يجعل أخصائي العناية الصحية للأطفال يمتلكون فرصة فريدة من نوعها للتأثير في فهم الأهل الصحيح للحمى ودورها في الإصابة بالمرض. كما أن لطبيب الأطفال مسؤولية رئيسة لتثقيف الآباء والأمهات صحياً لزيادة المعرفة لديهم للعناية المثلى بطفلهم الذي يعاني من الحمى، وللتخفيف من درجة القلق التي تساورهم.
د. فؤاد رشيد اللادقي
رئيس قسم طب الأطفال
العيادات الاستشارية ومستشفى المملكة
|