|
| |||||
مع مرور الزمن قد تتحول الأحلام إلى حقائق مؤكدة في معتقدات الشعوب وأفكارها، وتستمرئ الخوض في نسيجها ولو تعارضت مع قيمهم، واصطدمت بثوابتهم، وقليل أن نلتفت إلى تغير موقف الإنسان من مشين السلوك، حين يتجاوز مرحلة معينة، وأقل من ذلك محاولتنا استنتاج أسباب الانسياق وراء نزوات النفس وشهواتها، في فترة من فترات العمر. أقول هذا من خلال استقراء عابر لأبياتٍ من الشعر، في معلقة امرئ القيس، حين يقول وهو يبادل محبوبته الغرام في الخيال، بدافع من نزق الصبا، وميعة الشباب:
ويستمر في مناغاته لها، والتلاعب في عواطفها، حتى يوهم ذا اللب البسيط الساذج بصدق كلامه، مع أنه يعبّر عما كان يتمناه أو يتخيله في أحلام شبابه من صبابة وهوى. وبراعة التصوير لديه تبدي الحدث وكأنه واقعٌ حقاً، حتى أنه من فرط المبالغة كان في مغامرةٍ أخرى ظلّ يعدّ القبلات التي طبعها على وجنة محبوبته، حتى وصلت التسع والتسعين، فقال:
صورٌ متكررة في كتب التراث، يبدو فيها الشاب العربي بكل افتخار، يقتحم المخاطر، ويخترق الحواجز، ويروّض الصعاب، ليصل إلى هواه وبغيته دون وجل أو رهبة، ومن غير خوف أو حياء. وفيما يبدو لي أن هذا التفاخر في كل زمنٍ لا يخرج عن احتمالين: إما لإثبات الذات والقدرة على تخطي الصعاب وتذليلها، وإما لإثبات الظرافة، واكتمال الجسم. وعبر هذا التخيّل يخادع الشباب النفس بلهوٍ لم تبلغ النفس مداه، أو منعها من ارتياده مانع، كخوف، أو حياء. وهكذا هي طبيعة بعض البشر في شتى الأزمنة يميلون إلى المبالغة والانحراف والشذوذ، كلون من ألوان التمرد على الواقع، وانعكاس لفراغ نفسي، أو اجتماعي، أو سياسي. ومن هنا، فإن من الضروري في هذا السياق إبراز الجانب الخلقي لدى العرب، والذي قد لا يأبه به كثيرٌ من القراء، فنحن نقع على قيمٍ خلقية رفيعة في العصور الماضية تبزّ القيم المعاصرة، فأنت ترى القيم العالية استبدلت للأسف بقيمٍ ومبادئ من سقط المتاع، فأصبح بعض الرعاع من الشعراء الشباب يرون التحرش بالفتاة إكرامأ لها، وخداعها بمعسول الأحاديث رفعاً من شأنها وتقديراً لها، ورصد حبائل الفساد لها مهارةً ولباقة، فظلت غائبة عنهم أبيات (عنترة بن شداد العبسي) التي يقول منها:
وهل أنستنا الأيام موقف القبيلة بأسرها إذا شذّ منها الفرد بتصرفات خلقية مشينة، فيها إساءة لسمعة القبيلة والعشيرة، فيحاول العقلاء ردعه ما وسعهم ذلك بشتى الطرق، وإن تمادى في غيه طردوه, أو خلعوه ولقبوه ب(الخليع) نكاية به، وأعلنوا أمام الملأ إبعاده والتخلي عن تبعاته. وهاك هذه الصورة التي رسمها (طرفة بن العبد) لنفسه، وقد خُلع في بعض سني حياته، لتماديه في الغي والمجون، فأسقط من الوسط الاجتماعي، ليقول:
وحتى امرؤ القيس يعترف أن الخنا والفجور أضرّا بسمعته:
دعونا نتساءل: هل ظلّ الموقف الاجتماعي من القيم، شريفها ووضيعها على ما كان عليه، أم تبدّل؟ (*) الإدارة العامة للتربية والتعليم بمنطقة الرياض |
[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة] |