* سواءٌ أقبلت عليه الدنيا، أم أدبرت عنه، وسواءٌ كتب للإنسان العربي الاستقرار في وطنه، أو كتب عليه النزوح عنه. وسواء كان مرغماً أو طائعاً. على أيّ حال كانت، يبدو أن هذا الإنسان العربي بدأ يفقد السعادة والاطمئنان في وطنه يوماً تلو الآخر، فراح يلتمس أسباب الحياة الكريمة، ويبحث عنها أنّى كانت، وحيثما وجدت. فبدأت ظاهرة القلق والتمرد، وتبعتها الهجرة، أو التهجير من أقطار وأقاليم دون أخرى.
* تستقرئ ما تبثه القنوات الفضائية عبر برامجها الحيّة التي تتناول أطرافاً من حياة هؤلاء المغتربين، والأوضاع التي قاسوها، فينطبع في مخيلة الإنسان صورةً قاتمة رسمت خطوطها، وشكلت ألوانها ليالٍ من الشقاء، والحزن، والدمع، والضياع، والحرمان: ضاع عمري سدى، وشمس شبابي لوحت للمغيب خلف السنين.
*صورة بلا شك يغيض فيها ماء الأمل، وينضب معها معين التفاؤل، وتخمد أمامها جذوة الإحساس، ويحل محلها الشكوى والهم والندم، سيما إذا صدرت من شاب في عنفوان شبابه، ومقتبل أيامه.
* ملحمة الغربة، أو الهجرة تجربة تبينتُ صورة أربابها بدقة متناهية، لا من خلال الممارسة الفعلية والمعايشة لها، بل من دراسة حياتهم الثرية، ومقابلة بعضهم، والاطلاع على آثارهم الأدبية، وأحسب أن هذه الأسباب من أعظم المصادر التي بواسطتها نستشرف حياتهم، ونستطلع واقعهم، فالأوتار لا تنطق كما يقال،إلا إذا جرحت.
* ملحمة الهجرة أغنية حزينة حيناً، عذبةٌ في بعض مقاطعها تارة أخرى، بالأمس شدا بها اللبناني، والسوري، والفلسطيني، واليوم سيشدو بها العراقي بعد أن بكاها دماً، ووطأها جمراً، جميعهم هاجروا، أو هُجّروا، وفي أعينهم دمعة الغربة القاسية، وفي قلوبهم جذوة الحنين الدائم، ولا نعلم من سينضم إليهم غداً، أو بعد غدٍ من واسطة العقد العربي الذي أخذ يتناثر عاماً بعد آخر.
* ورغم مرارة الواقع لهؤلاء، وقساوة التجربة، وشدة وطأتها، فقد سرني بعض الظواهر التي تبدّت عندهم، وساءني في المقابل لونٌ آخر، تناقله غير واحد، أحسبه من دسائس الأعداء.
* في بعض مطارح الغربة، ظهرت عيوب أوطانهم مجسمة، بعد أن كانت مغلفة بأغلفة متنوعة، فاستغلت للأسف من روابط مناوئة للعرق العربي، فذهبت هذه الطيور المغردة هناك ترشق مجتمعاتها بسهام من النقد الجارح، يدفعهم في ذلك إحساس حاد بأن الناس لا يفهمونهم، ولا يقدرونهم حقّ قدرهم. وراحوا يختلقون المبررات للتمرد عليه والرحيل عنه.
* وأما ما يسرّ، فقد يتساءل الإنسان، لماذا يخفي كثيرٌ منهم الفقر، والرغبة في الثراء، وهما العاملان الملحان على هجر الأوطان غالباً. فأظن أن ذات الإنسان العربي المتعالية، والمختالة بعنفوان الشباب وأحلامه، هي التي كانت تجهد في إغفال هذا الدافع عن وعيٍ منها، وعن غير وعي، إما لأنه ينافي المثل المعنوية، وما اصطنعته لنفسها من قيم كرّستها الأعراف الموروثة، أو وربما عده البعض إقراراً مبطناً بعجز الإنسان العربي عن متطلبات العيش، وصورة أخرى من صور الإخفاق في الانتصار على الحياة.
* القليل منهم استطاع أن يرسم لنا بواقعية تامة الحياة التي عاشوها بكل حيادية، بما فيها من الضياع والهوان والفقر وافتراش الثرى وتوسد الصخر، وكانت بحق صورة مغايرة لما كانوا يتوهمون، أو ينشدون، وقد صوّر (إلياس فرحات) وقائعها بقوله: ومركبة للنقل راحت يجرها حصانان، محمرٌّ هزيلٌ وأشهبُ تبين وتطفو في الربى وحيالها فيحسبها الراؤون تطفو وترسب وتدخل قلب الغاب، والصبح مسفرٌ فتحسب أن الليل لليل معقبُ تمرّ على صم الصفا عجلاتها فنسمع قلب الصخر يشكو ويصخبُ نبيت بأكواخ خلت من أناسها وقام عليها البوم يبكي وينعبُ مفككةٌ جدرانها وسقوفها يطل علينا النجم منها ويغربُ ونشربُ مما تشرب الخيل تارةً وطوراً تعاف الخيل ما نحن نشربُ.
* أما الأكثر منهم، فقد ظهروا لنا - وإن لم يكونوا - مفعمين بمشاعر الثقة والطموح والتفاؤل، ومغشاة حياتهم بغلالة من البطولة، والتطلع نحو المجد، على نحو ما يقوله أحدهم: لبنان، لولا طلاب المجد ما عبرت بنا السفين، ولا رفّت لها الشرعُ.
|