لو سألني أحد هواة الاستطلاع ومعرفة الآراء، هل تحب أمريكا؟ ووضع لي خيارين- فقط- للإجابة، فلربما كان الجواب الأسرع (نعم)، فالمفهوم الشامل لكلمة ( أمريكا)، لا يزال يقتات من تاريخ مجيد قوامه كثير من العدل، والإنصاف، والتعددية، والحرية، والإتقان في كل عمل يعمله الأمريكيون، وليس سوى حقب زمنية قليلة معاصرة، حيث بدأ الوضع يضطرب، والمعايير تختل، والشعارات تتهاوى، وهنا، قد أستدرك على السائل أن الأمر لم يعد يكفيه خياران للإجابة، فليست الصورة الأمريكية المعاصرة قَواماً بين هذا وذاك، بل ظهرت كثير من المساحات الرمادية، ومتعددة الألوان، وعندها، فحينما يُطرح سؤال حول أمريكا، فإننا نحتاج إلى مقاييس خماسية وسباعية وعشرية للإجابة، فلكل حال أحوال، ولكل مقام مقالات، أمريكا اليوم - كما تبدو- واجهتان متباينتان، أو أنه أريد لها أن تكون كذلك.
المؤسسات الرسمية ومن في حكمها من المؤسسات المدنية والأفراد، يحتلون جانبا، والشعب الامريكي الآخر، يحتل الجانب الآخر، أو أنه أريد له أن يكون كذلك، في عملية التفاهم!! الأمريكي مع الآخرين في العالم ( عنفاً) أو (سلما).
أما الجانب الأول، فيبدو أنه من الوضوح بمكان، حيث باتت تخدمه وتعبر عنه كل ما تفتق عنه العقل البشري- والأمريكي خاصة- من تقنيات الاتصال، ومن تقنيات قطع الاتصال أيضا!! وبذلك، فيبدو أن الجانب الآخر هو الجانب الذي تتم المراهنة عليه- أمريكيا- لإعادة عملية التوازن الدولي، وحتى الوطني داخل الولايات المتحدة ذاتها، وذلك عندما تشعر المؤسسات الرسمية بأهمية تفعيله، ولكن، ربما كان الغائب كليا أو نسبيا عن الشعب الأمريكي ليس سوى!! (الحقيقة)، في عالم عزّت فيه الحقائق على كثير من الناس الذين ليس لهم (أنوف) في لعبة المؤسسات العملاقة، وبذلك- ربما- بقيت كثير من فئات الشعب الأمريكي لا تعرف كل الحقيقة، وربما لا تعرف معظم أطراف الحقيقة أيضا، حتى في ظل تقنيات الاتصال المتطورة جدا، وبالأخذ بالاعتبار ( العقلية الأمريكية) المائلة للنظرية العلمية، وأعتقد أن إشكالية الشعب الأمريكي تكمن في مستوى المصداقية الذي ربما كان عاليا عنده بالنسبة لوسائل الإعلام والاتصال الرسمية هناك، فتاريخها الطويل، لا يشير إلى مزالق عنيفة في هذا الجانب، وما يمكن أن يقال عن التحولات الدراماتيكية في مصداقية الإعلام الرسمي الأمريكي، لا يرقى- بعد- (زمنيا) إلى أن تتشكل على ضوئه الآراء العامة هناك، ومن هنا، ربما لا يزال الإعلام الرسمي الأمريكي يشكل مصدرا مهما لتكوين الآراء العامة لدى الناس، والمشكل، أن الأمريكيين قد لا يعرفون كثيرا من هذه الحقائق، ومن زاوية أخرى قد يكون مزعجا للشعب الأمريكي، أن يتم استغلاله من أجل تمرير رؤى المؤسسات الرسمية، وهنا، لست أدري إن كانت (قناة الحرة)- على سبيل المثال- قد استفتت الشعب الأمريكي لتعرف رأيه حول أن تصرح القناة بأنها رسالة الشعب الأمريكي إلى الشعوب العربية. ثم هل تم - أصلا- للشعب الأمريكي، تقديم الرؤية العربية كما يراها الشعب العربي، حتى يتاح للأمريكي أن يقدم رسالته تلك؟ أشعر أن الشعب الأمريكي الذي أحترمه قد أصبح لا يعلم كثيرا من الحقائق التي تدور حوله، وفي إطار علاقاته بالآخرين فقد يكون- من غير علم يقين- أقرب لأن يردد مقولات وأطروحات مؤسساته الرسمية من أن يتفرد برؤية خاصة ناضجة، على الرغم من أن تلك المؤسسات لم تعد تنعم بالبريق الدولي الذي كان .
ربما أتينا من أن كثيرا ممن يتحدثون عنا اليوم، لا يعرفون الحقيقة.
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|