لاشك أن للحج متاعبه ومشاقه.. في الزمان الماضي بشحه المادي ورتابته الحياتية! في الحاضر بتطوراته المذهلة في وسائل السفر وطيًِ المسافات بأقصر ما يمكن من وقت!.
فمتاعب الحج ومعاناة الحاج إلى بيت الله الحرام - مع أنها نسبية - فهي طبيعية وقائمة.. وستبقى قائمة في الرخاء والشدة.. مهما تطورت وسائل حياة الإنسان ووسائل اتصالاته ومواصلاته ومخترعاته التي تطوي مسافات الأبعاد للحاج المسلم في قدومه إلى مكة، وعودته منها إلى أهله ووطنه.. فوقوعها.. النسبي حاصل لا محالة .
على أن حلاوة الحج أن ترتبط به بعض المتاعب لزيادة الأجر - أولاً - فالأجر على قدر المشقة ولتكون - ثانياً - تذكاراً لرحلة من أفضل الرحلات في حياة الإنسان المسلم.
لعلي بعد المقالين السابقين أعطي هنا لمحة سريعة عن جانب من جوانب مشقة الحج في الماضي..
***
إن من رحمة الله جل وعلا بعباده؛ ورأفته بهم؛ وعدم تحميلهم مالا يطيقون.. أن جعل الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام فريضة عُمْرَّية واحدة لا يتكرر إلزام المسلم بها أكثر من مرة واحدة في حياته كلها.. إلا من شاء أن يتطوع.. نفلاً وهو ما رغّب فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
بَيْدَ أن حج الفريضة مشروط بالاستطاعة.. أي القدرة الجسمية؛ والمادية.. {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فالفقير الذي لا يجد الزاد ولا الراحلة ليس عليه حج.. وكذلك هي حال الشيخ والهرم.
ولقد أدركت كثيراً من أهل بلدتي والقريبين منها.. وكل أهل نجد كذلك - تقريباً - إذا انتهى شهر رمضان المبارك بدأت همومهم تكثر وتزداد وتؤرقهم الرغبة الملحة في قضاء فريضة الحج.. حتى أن بعضهم يستدين في زرعه، أو في ثمرة نخله، قيمة الراحلة (الناقة) التي سيحج عليها هو ووالدته، أو والده أو زوجته.. وقيمة الراحلة في ذلك الزمان غالية جداً بالنسبة لفقر المجتمع وحالته المادية الهزيلة، فهي في حدود (100 - 120) ريالاً.. ولا بد من أن يشتري لها (الشداد) أو (الوِسامة) أي ما يوضع على ظهر الناقة.. وخاصة إذا كان الحاج امرأة.. فلا بد من ذلك ليوضع عليها (الغبيط) ويسمى في نجد (الكواجة) أو (الباصور) عند البادية.. والغبيط هو الاسم العربي الأصل.. وهو الذي يقول فيه امرؤ القيس حال ميله إلى الغبيط لتقبيل عشيقته (فاطمة):
تقول - وقد مال (الغبيط) بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
ولا تحرميني من جناك المعللِ
***
وارحمتاه.. لهذا البعير أو هذه الناقة التي تمكث شهرين كاملين في الذهاب من إحدى القرى المتوسطة في نجد إلى مكة.. ثم العودة منها.. وهي تنوء بحملها الثقيل من الآدمي الراكب عليها.. والزاد الذي ينوء به ظهرها.. لاسيما إذا كان الجو حاراً والطريق مجدباً.. لا تجد فيه ما يشبعها.. أو يُبقي على صحتها..
ولذلك صار وضعها بعد عودتها بالحجاج؛ مثلاً؛ يضرب لمن يرد الإحسان بالإساءة بمعروف بكسر الأنوف.. فيقال (ناقة الحج جزاها ذبحها..)!!
وفعلاً هذه الناقة (الحاجة) قلَّ أن تعيش بعد عودتها من الحج، لأنها - غالباً - تمرض أو تهزل؛ فيصار إلى ذبحها.. وأكل لحمها.. ويتحاشى بعض أهلها الأكل منها.. عاطفة ووفاءً لها.. رغم الشُّح الغذائي وخاصة اللحم في ذلك الزمان. فيا لَلّه كم ينال الحجاج وركائبهم حينذاك من التعب، والإرهاق؛ والجوع، والخوف من قطاع الطرق، و(سراق الحجيج) وعصابات السطو المسلح.. في كل اتجاه يسلكونه لأداء فريضتهم وليشهدوا منافع لهم؛ ولذلك فهم يتجمعون في ركب واحد يضم عشرات الأشخاص أو مئات ما بين رجال ونساء.. لحماية أنفسهم من أولئك المعتدين.. ويحملون سلاحهم البدائي من البنادق القديمة، والعُجَر والمشاعيب والمحادي. وكل ما يساعدهم على حماية محارمهم وأنفسهم وركائبهم.
ولذلك كان الحاج من الجزيرة العربية أو من خارجها عندما يعود سالماً فكأنما هو قد ولد من جديد..
ولم يعرف الحجاج أمناً وسلاماً إلا بعد أن وحد الملك عبد العزيز - رحمه الله - أقاليم البلاد في وحدة عضوية اندماجية.. لا انفصام لها - إن شاء الله - فحقق الأمن والاستقرار في ربوعها لمواطنيها، وللقادمين إليها من جميع بقاع الأرض.
***
ولم يكتف الملك عبد العزيز بتحقق الأمن والاستقرار لجميع سكان المملكة العربية السعودية والقادمين إليها للحج والعمرة من جميع فجاج الأرض.. بل أضاف إلى هذه النعمة العظيمة.. أن أعفى جميع الحجاج المسلمين من الرسوم المفروضة عليهم قبلاً. فلم يعد الحاج من الخارج يدفع للحكومة أي مقابل لدخوله المملكة حتى قضاء حجه وعودته سالماً.وإذا كان بعض المطوفين في الوقت الحاضر تقع منهم أخطاء على حجاجهم.. كاستغلالهم بكثرة التكاليف.. وحشرهم في غرف ضيقة.. وما إلى ذلك.. فهذا شأن المطوفين.. أي أن الأخطاء التي تقع من الأفراد.. يحاسب عليها الأفراد لا الحكومة ولا المجتمع السعودي!.
وهناك لوائح وأنظمة تحكم هذا الجانب؛ الذي نأمل ألا تفوح منه رائحة تمس سمعة الدولة، والمجتمع السعودي.. بفعل أفراد قد يكونون لندرتهم يعدون على أصابع اليد من فئة المطوفين لحجاج الخارج.