وإذ مسنا الضر من تطرف الموغلين في الدين بغير رفق وبغير علم فإننا على وجل من المتطرفين في الفكر، الخارجين على رأي الجماعة، المستمرئين للنيل من كفاءات الأمة العلمية والفكرية، ومن القائلين في القضايا الفكرية والتربوية والاجتماعية دون تثبت، ودون تسليم للمرجعيات المعتمدة، وكيف يقبل عاقل رشيد الخوض في (قضايا المرأة) دون استصحاب الموقف الإسلامي، ودون تحفظ او استثناء في زمن نرى فيه تسليع المرأة واستغلال جمالها في الإعلام والتمثيل والدعاية والتجارة، وقبولها تلك النخاسة، واستمراء الرجل لذلك وما من عاقل رشيد غيور يقبل على محارمه أن يكن كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد خصم الرسول صلى الله عليه وسلم الشاب الذي طلب منه ان يحل له الزنا، فكان أن سأله عما إذا كان يرضاه لأمه أو لأخته أو لزوجته أو ابنته.
وفي الوقت نفسه لن يمانع اي عاقل رشيد أن تأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع، وأن تكون عضواً عاملاً، متى دعت الحاجة الى خروجها من المنزل. وحين يتحدث مدعو الإصلاح عن (حقوق المرأة) فعلى اية شاكلة يرونها وما التجربة المثلى التي يحيلون إليها؟
إن التجارب القائمة في سائر أنحاء العالم تقتضى المصير الى التحديد والتوصيف ووضع الضوابط، وهذا ما اختلف فيه مع الظلاميين، ولأنني لا اريد نسف الجسور، ولا تعطيل قنوات الاتصال بيني وبين أي محرض على التمرد والسفور والاختلاط وعلمنة المناهج فإنني أحاول أن اضع كل واحد أمام ضميره، ولن أقابل مجازفات اولئك بمجازفات مماثلة، تحيد بكل الأطراف عن جادة الصواب، وتؤدي الى المجاراة في المنهي عنه، ولن أبحث عن شواهد الإدانة، ولن أصعد الخلاف، فأنا طالب حق، ولست طالب انتصار، ومبدي نصح، ولست باحثاً عن إدانة، وكم أود أن يجري الله الحق على لسان من أخاصم. وإذ لا اقطع بضلال أحد، فإنني لا أريد لهذا البلد الذي قام على العقيدة السلفية الوسطية، الرادة عند الاختلاف الى الله والرسول ان تعصف به الأهواء، ولا أن تؤول أموره وأحواله الى ما آلت إليه أحوال الدول التي شط أبناؤها في آرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم، فكان ما نراه من تصدع في التلاحم، واختلال في الأمن، ونقص في كل وجوه الحياة، وما ذلك إلا بسبب صدام الأفكار، وتنازع السلطة والخروج على شرعة الله ومنهاجه. وما نقم مني البعض تصريحاً أو تلميحاً إلا لأنني ادعو الى أخذ الحذر من دعاة السوء، والتزود من المعارف قبل التصدي والتصدر، امتثالاً لأمر عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا) والرد عند الاختلاف الى الله والرسول وأولي الأمر.
فإذا قلت: إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، فليس معنى هذا انني اعارض التعليم والعمل ومشاركة المرأة بما هي أهل له، ثم إنني بهذا القول أرد الى الله، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فلماذا يحيل الناقمون القول عليّ، ولا يحيلونه الى مصارده. وإذا كان الوضع الطبيعي أن تقرّ المرأة في البيت، فإن الوضع الاضطراري ان تبرحه، وحين تكون المبارحة اضطراراً كان لابد من ضوابط، وليس من متقضيات القرار تحريم الخروج والعمل، ونساء الصحابة خرجن وعملن، والرسول عمل أجيراً عند (خديجة) والتحفظ الذي نقول به حملنا عليه ما آلت اليه أوضاع المرأة من تبذل وامتهان وإخلاء للبيت لتحلته امرأة اجنبية. وإذا قلت: إن عمل المرأة مشروط بشرطين (قيام الحاجة وعدم الاختلاط) فإنما أرد الى الله، والله يقول على لسان ابنتي شعيب: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص فصدور الرعاة من الموارد خشية الاختلاط، وشيخوخة الأب لتأكيد قيام الحاجة لعمل المرأة، وإذا قلت: إن عمل المرأة خارج المنزل ضرورة تقدر بقدرها، فإنما أرد الى الله، والله يقول لآدم: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه ولم يقل (فتشقيان)، لأن العمل الشاق من مسؤوليات الرجل. ولأن الرجل هو الكادح والمنفق فقد كفي الحمل والرضاعة، وحّمل القوامة والسعي في مناكب الأرض، فيما أعطيت المرأة ما لم يعط الرجل من الحنان والعطف والنعومة،وأعطي الرجل ما لم تعطه المرأة من القوة والخشونة الجسدية، فما عيبت امرأة في بكاء، وما حمد رجل عليه ولأن لكل من الرجل والمرأة خصائصه الجسمية والنفسية، وله مجاله الاختياري الملائم لخصائصه فإن القول بمطلق المساواة، أو القول بتوحيد المناهج قول مخالف للسنن الكونية التي رتبت عليها السنن الشرعية، وإذا قام الاختلاف العضوي والنفسي بين الرجل والمرأة فإنه يلزم من ذلك قيام الاختلاف في المهمات والاحتياجات، وإلا أصبح التنوع من العبث، ولأن الله رتب الكون على ثنائية الازدواج، فقد فضل احدهما على الآخر، ليجعل له سلطة التدبير المتخلية عن التسلط والاستبداد، ومن ثم كان جل الخطاب للمفضل، ولم يكن خطاباً ذكورياً كما يعتقد البعض، ومع ان الغرب أوغل في المساواة الا أن المرأة الغربية تظل دون الرجل في كثير من المسؤوليات بما فيها رئاسة الدولة، ذلك ان الطبيعة تغلب التطبع، فالمرأة الغربية لها مطلق الحرية في الفعل والترك والمشاركة، ومع هذا تظل مسبوقة بمسافات كبيرة من قبل الرجل، لا بقوة القانون، وإنما بتفاوت التكوين والمصير العفوي للطبيعة البشرية، والقائلون بغلبة الخطاب الذكوري العربي لا يفكرون بغلبة الرجل الغربي على المرأة مع غياب الخطاب الذكوري.
وحين أقول بمنع السفور والاختلاط فإنما ارد الى الله، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} ويقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وإيما امرأة خضعت أو اختلطت أو خلت أصبحت عرضة للريبة والطمع، ولنا في أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها موعظة، لقد تعرضت لخلوة اضطرارية، فكان (حديث الإفك)، وفي الأثر أن نفراً مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يكلم ابنته، فقال: إنها فاطمة، ولما عجبوا قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أو كما في الأثر فأين نحن من (عائشة ومحمد وفاطمة)، ولما حصلت الخلوة بين (يوسف) عليه السلام وامرأة العزيز{غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) سورة يوسف ولما كان حديث البعض من دعاة التفرنج عن المرأة يتجاوز المشروع كان لزاماً علينا أن نرد قولهم الى الله والرسول، وعليهم أن ترحب صدورهم إذا قلنا: هاتوا برهانكم ولا برهان إلا من آية أو حديث، نذعن لهما ونسلم، ونحن طلاب حق وبلادنا محكومة بالكتاب والسنة. وتجربة (المنتدى الاقتصادي) خير دليل على أن الناس بحاجة الى وزاع سلطاني، وأطر على الحق، وفي الأثر: أن الله ليزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن. وحين لا نتناهى عن منكر فعله المتسرعون طالنا ما يطال اليهود الذين أخبر الباري عن عدم تناهيهم عن المنكرات، ومشروعية اشتراك المرأة في المنتديات والمؤتمرات لا يستدعي السفور ولا الاختلاط، وما أضاع الأمة وحرمها من سماحة الإسلام إلا الافراط في المنع او التفريط في الإباحة، ولو أن النسوة اللائي اشتركن في الملتقى عرفن ما لهن وما عليهن لكان أن تمتعن بحقهن المشروع الذي يوفر كل الحقوق ويمنع كل التعديات.
والذين يدعون فيما يكتبون أنهم مصلحون، وان المرأة محرومة من حقوقها المشروعة، ثم يسوقون شواهد من وقوعات أو من تعامل جائر مع المرأة يحيلون ذلك الى الكافة، والكافة منه براء، وعليهم حين يحكمون على جور أملته العادات أن يربطوا الأسباب بالمسببات، وان يقارعوا تلك الظواهر بما درج عليه سلف الأمة، فالمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، واشكاليتنا في تحديد هذا المعروف، فهو واقع بين افراط المتشددين وتفريط المتسيبين، أقول قولي هذا وأنا اعرف حق المرأة في (العلم) و(العمل) و(التجارة) والخروج المنضبط، وانها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، وأن قوامة الرجل الشرعية لا تسلب حقاً، ولا تعطل قدرة، ولا تمنع من الاستجابة لخدمة المجتمع في المجال الذي لا تسده إلا المرأة، أو أن من الخير ألا تسده إلا المرأة، وتقرير ذلك كله لذوي الاختصاص والمسؤولية، فمثل ذلك النوازل، و(فقه النوازل) لابد له من اجتهاد جماعي ورؤية مؤسساتية، فحين لا يكون على المرأة (جهاد) ولا (نفقة) وحين تلزمها الشريعة الإسلامية بالمحرمية في السفر، فمن ذا الذي يقرر خروجها وجهادها وانفاقها وسفرها في حالات الضرورة؟
وحين تقتضي الحياة خروج المرأة من البيت للدراسة او للتجارة او للعمل، فمن ذا الذي يحدد ذلك ويرسم طريقه ومجالاته، أهل الذكر والحل والعقد أم المستغربون المتعلمنون؟
أقول ما تقرأون، ولي تجاربي التي تحميني من الاتهام بالشدة والإمعان في منع المرأة من حقوقها المشروعة، فأنا اب لاثنتي عشرة بنتاً هن عندي زينة الحياة وبهجتها، ثمان منهن جامعيات، واربع منهن عشن في أمريكا مع ازواجهن ودرس بعضهن هناك، وواحدة منهن اعطت محاضرات في الكمبيوتر في الجامعة، وهن زوجات موفقات، منهن العاملات، وأكثرهن ربات بيوت، عملن ثم فضلن التفرغ للزوج والأولاد وشؤون البيت بالطوع والاختيار والاستغناء، ولم ازل اشرف على ثلاث رسائل دكتوراه لثلاث طالبات، فهل سيكون موقفي من المرأة القائم على القرار في البيت والتزام الحجاب وتفادي الاختلاط والخلوة والتبرج سبباً في ضياعهن أو جهلهن او تعطيل نصف المجتمع، كما يحلو لدعاة السوء أن يقولوا عني؟
دعك من قضايا المرأة، وخذ بيدي الى قضايا (المناهج)، و(السياسة)، ولما كنت ابني بجدة (المناهج) تعلماً وتعليماً وممارسة منذ نصف قرن فإنني حقيق بالقول، ولا فخر، لقد درست في ثلاث جامعات عربية، وتخصصت في التربية وعلم النفس، ومارست التعليم على مدى خمسين سنة، وحاضرت في المناهج، وألفت في ذلك، وخبرت التعليم من الكتاتيب حتى الدراسات العليا، وأشرفت على رسائل الدكتوراه وناقشتها، ولم أزال اتقلب في التعليم منذ السادسة عشرة من عمري، ومع ذلك لم اسلم من الغمز واللمز والسخرية، وكأنني كهفي أبعث بورقي الى المدينة. وحين أقول: أن مناهجنا لا تصنع ارهاباً، ولا تكفر أعياناً، فإنني أقول: إنها في الغالب لا تخرج إلا كتبه، وانها لا تساير خطط التنمية، ولكنها مع هذا ليست سيئة بالقدر الذي يشيعه المستغربون والمتسرعون، ويكفي أنها خرجت الأطباء والمهندسين والعلماء، وعشرات الآلاف من المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية، وربما كانت بلادنا من أكثر دول العالم في الابتعاث للدراسة الى الخارج، وما كان احدهم بدعاً في تربيته وتعليمه، وما كانت مناهجنا من قبل مثل جدل ولا استنكار ولا استغراب.
والذين عادوا متأثرين بالأفكار الغربية شكلوا طوائف (ليبرالية) و(فرانكوفونية) ان هم إلا سليل تلك المناهج التي تتهم من الداخل والخارج، ومع إصرارنا على التطوير فإننا نفرق بين الاتهام السافر والملاحظات المتزنة، وإذا لم نطور مناهجنا يوماً بعد يوم، ونأخذ من مناهج الغير أحسنها وأقدرها على مواكبة الحياة المعاصرة سبقنا العالم. وأسلمة المناهج لا تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومواكبة الحياة، ومن فهم الأسلمة على غير ذلك ففهمه مرورد عليه، وعمليات التطوير شيء والاتهام والاستعداء شيء آخر، والذين يسايرون الأعداء في اتهام مناهجنا بالارهاب أو بالتكفير، ويحتمون بمراوغة اللغة، يجهلون او يتجاهلون (سبعين عاماً) من عمر التعليم، ويتجاهلون الملايين من مخرجاته ممن يختلطون مع مختلف الجنسيات والأديان، ويجوبون آفاق المعمورة، دون ان يمسوا أحداً بأذى، ولقد كان (الأمريكيون)، بالذات يذرعون فضاء أرضنا جيئة وذهاباً، منذ عهد الملك (عبدالعزيز) الأشد تمسكاً بالسلفية، ينقبون عن المعادن، لا يرافقهم إلا أعرابي طارت شهرته في الآفاق، ولهم اسهامهم في تعليم أبناء البلاد، مما هم بحاجة إليه في القطاعات العسكرية والتخصصات العلمية، كما أنهم يمارسون مختلف الأعمال في المستشفيات والمصانع والمؤسسات، وما قيل عن احدهم انه قتل غيلة، ولم تكتشف اللعبة، وهمت كل طائفة بأختها وصفيت الثارات، ولكيلا ترد الأحداث الى مصادرها فتتعرى اللعبة، وينفضح اللاعبون، حملت المناهج وزر غيرها، واستخدم طغام الظلاميين لترويج الفرية.
أما السياسة فلست ابن بجدتها، ولكنني قارئ نهم، بدأت قراءتها فيما كتب عن (لعبة الأمم)، وصدام المصالح، وصراع الحضارات، ودسائس الاستشراق، ومكر التبشير، ومكائد الاستعمارو وسير الزعماء ومذكراتهم، والاستخبارات ومغامراتها وقصص الثورات وعمالتها، ومتابعة الوثائق التي يفرج عنها كل حين وملفات القضايا المصيرية، وما تعانيه الشعوب من ويلات، وعايشت احداثاً مؤلمة من نكسات واحتلال وتطبيع ومواطآت وتراجعات مؤلمة، فتبين لي ان العالم العربي والإسلامي يعيش تحت وطأة لعبة سياسية كونية، أتت على مقدارته وأمنه، وأذهبت ريحه، ولما يزل يخرج من لعبة قذرة، ويدخل في أخرى، ومن تعاطى السياسة كما يتداولها الاكاديميون او كما تبثها وسائل الإعلام فقد يضر بمصالح أمته السياسية، فن الممكن، ولقد عايشها عقلاء مجربون، فخرجوا من مستنقعاتها، وهم يلعنون ساس ويسوس وما تصرف منها وعجبي من مفكرين وكتاب يظنون ان ما يقوله الإعلام الغربي حق لا مراء فيه، ومن ثم يرتبون أمورهم ومواقفهم على ما ينتهي إليهم منه وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج
وبعد: كل الذي أرجوه من اولئك الذين آذوا البلاد والعباد ان ينظروا في مسلماتهم، وان يتزودوا من العلم الشرعي، فهو مرجعية حضارتهم، وان يؤصلوا لمعارفهم، وان يمحصوا مواقفهم بالمراجعة والمحاسبة والمساءلة، وحين تلتبس عليهم الأمور، عليهم ألا يجدوا حرجاً في أن يسألوا أهل الذكر، فدواء العي السؤال، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا كان بعض اولئك غاضباً على الذين يؤذونه بالاتصالات، ويسبونه من خلال المواقع المعلوماتية، ومن خلال الردود والرسائل فليعلم ان البادئ أظلم، ولو ترك القطا لنام، وما بعد البعد نقول: (انج سعد فقد هلك سعيد).
|