Sunday 18th January,200411434العددالأحد 26 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

كلمة وفاء وقصيدة رثاء في فقيد العلم والعلماء كلمة وفاء وقصيدة رثاء في فقيد العلم والعلماء
د. عبد الله بن محمد الحميِّد(*)

ما تشرفت بزيارته يوماً إلا ورأيته يتصفح كتاباً يقرأ فيه، أو يستمع لمن يقرأ بين يديه، أو يدلي برأي سديد، أو يناقش مسألة فقهية، أو يصلح بين متخاصمين، أو يذكر الله سبحانه حامداً شاكراً، مستغفراً أوَّاباً منيباً بل كان يفرح إذا أهدي إليه كتاب، ثم لا تراه إلا متحدثاً عن محتواه وعن مميزاته وعن مؤلفه.
حقاً لقد كان شيخاً جليلاً، وعالماً عابداً، لاهجاً بذكر الله تعالى في قيامه وقعوده، وخلوته وجلوته، كما كان إماماً من أئمة العلم الشرعي والقضاء في مملكتنا الحبيبة، وكانت تجلله المهابة والوقار، ويشع من عينيه ووجهه نور الإيمان والطمأنينة والسكينة، ما رآه إنسان إلا وقعت محبته في قلبه، وتمنى أن يقبل رأسه احتراماً واجلالاً وتقديراً.
وعلى الرغم من ذلك الوقار الذي كان يجلله، والهيبة التي كانت تكسو ملامحه إلا أنه كان شيخا متواضعاً، حبيباً إلى القلوب والعقول، فما أن يجلس بين يديه أحد من الناس إلا أسره ببشاشة وجهه، وطيب حديثه، وكرم أخلاقه، وغزارة علمه، وعظمة تواضعه، فكان يحتفي بالكبير والصغير، والغني والفقير، والقريب والبعيد ويطلب من زائره أن يجلس بقربه، ثم يقبل إليه بوجهه، ويسأله عن أحواله وأحوال أسرته، وعمله ودراسته وثقافته، ولا يزال هذا دأبه ممسكاً بيد زائره ما بين آونة وأخرى، يتبسط معه في الحديث، ويهتم بشؤونه، وكأنه ليس في مجلسه إلا هو، ثم لا يلبث أن يفيض على الحاضرين في مجلسه من مخزون علمه الوافر الذي كان يتدفق كالسيل في العلوم والمعارف شتى، وذلك من خلال ذاكرة حافظة متقنة لم تؤثر عليها عوامل الزمن ولا تقدم العمر، حتى إنه ليتذكر أحداثاً عايشها منذ عشرات السنين، فيحدد وقائعها باليوم والشهر والسنة في دقة متناهية مما يثير دهشة المستمعين وإعجابهم.
وإذا ما عرضت في مجلسه مسألة فقهية فإنه يناقشها بالتأصيل الشرعي المدعم بالأدلة من الكتاب والسنة، فإذا كان الحديث عن شاعر من الشعراء المشهورين فإنه يسرد من ذاكرته العجيبة عشرات الأبيات دون أن يتلجلج أو يتلعثم، أما إذا كان مسار الحديث عن الفصول، ومنازل النجوم فهو ابن بجدتها، إذ له معرفة عميقة في هذا المجال. وقس على ذلك تضلعه في علوم التفسير، والحديث، والفقه، والفرائض، والتاريخ، والأنساب، ومواقع الجبال والأودية في بوادي نجد وسروات عسير وتهائمها، كما كان متابعاً للأحداث المعاصرة من خلال قراءته للصحف المحلية واستماعه للإذاعة والتلفزيون.
ولعمري فقد كان حجة لا يبارى، وآية باهرة من آيات الحفظ والإتقان لا تمارى بدءاً بالقرآن الكريم الذي كان يوليه دائماً عنايته واهتمامه، ثم بأحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء بجيد المنظوم والمنثور من كلام العرب وأمثالهم، وقصصهم وأخبارهم، فتراه يسرد ما يستدعي الحديث منها بأسلوب جميل وإلقاء مؤثر، ونبرات جذابة تثير الإعجاب والخشوع.
وأجزم بأنكم أيها القراء الأعزاء قد عرفتموه، لأنه كان علماً مشهوراً، وفريد عصره علماً وفضلاً، وتقوى وحكمة، وسداد رأي وطول تجربة في الحياة، وعمراً مديداً جاوز فيه قرناً من الزمان أمضاه في طلب العلم الشرعي وتعليمه، ثم تدرج في وظائف القضاء حتى وصل إلى أعلاها مرتبة وذلك حينما أسندت إلى سماحته رئاسة محاكم منطقة عسير ولمدة تزيد على أربعين عاماً ألا وهو فضيلة القاضي العلامة الوالد الشيخ: إبراهيم بن راشد الحديثي.
الذي انتقل إلى رحمة الله سبحانه بعد عصر يوم الجمعة الموافق للسابع عشر من شهر ذي القعدة عام 1424هـ، ثم صلت عليه جموع المسلمين بعد صلاة الظهر من اليوم التالي في جامع الملك عبد العزيز بمدينة أبها يتقدمهم صاحبا السمو الملكي الأميران الجليلان الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز أمير منطقة عسير والأمير فيصل بن خالد بن عبد العزيز نائب أمير منطقة عسير.
ثم شيعه إلى مقبرة الشرف المئات من أبنائه وتلاميذه وأحبابه وعارفي فضله رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم آله وذويه الصبر والسلوان وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء . ولاشك بأن وفاته قد أحدثت في قلوبنا جميعاً حزناً وألماً، كيف لا وهو الإمام العالم العابد والقاضي الزاهد الذي أحب مدينة أبها وأحبته، وأحبه أهلوها بعد أن عاش فيها ما يزيد على ستين عاماً، وكانت له الجهود الخيرة التي تذكر فتشكر في الإصلاح بين الخصماء، وإنهاء النزاعات القبلية في بلاد عسير، وإصدار الأحكام القضائية المسددة في كثير من القضايا التي نظر فيها أثناء عمله رئيساً لمحاكم منطقة عسير طوال أربعين عاماً يعاونه في ذلك مساعده وابنه البار فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الحديثي حفظه الله إلى جانب جهوده المباركة في رئاسته لجمعية تحفيظ القرآن الكريم بمنطقة عسير التي امتد خيرها ونفعها - ولله الحمد - إلى جميع أنحاء منطقة عسير سراة وتهامة، وكذا جهوده الطيبة في رئاسة مجلس الأوقاف الأعلى بمنطقة عسير.
كما كان رحمه الله موضع ثقة ولاة الأمر - حفظهم الله - ومحط محبتهم وتقديرهم واحترامهم إلى أن توفي رحمه الله، فكانت وفاته خسارة كبيرة على أبناء هذا الوطن جميعاً.
ومعلوم أن فقد العلماء الربانيين رزء عظيم، وثلمة لا تسد إلى يوم القيامة حتى إن كثيراً من المفسرين قد فسروا النقص الذي ذكره الله تعالى في الآية الكريمة الرابعة والأربعين من سورة الأنبياء عند قوله سبحانه:
{ أّفّلا يّرّوًنّ أّنَّا نّأًتٌي الأّرًضّ نّنقٍصٍهّا مٌنً أّطًرّافٌهّا}
بأن المقصود بالنقص هنا فقد العلماء، ويصدق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء».. الحديث. غير أنَّا لا نقول إلا ما يرضي ربنا جل وعلا فلكل أجل كتاب، وكل نفس ذائقة الموت، ولله سبحانه ما أعطى، وله ما أخذ وكل شيء إلى أجل مسمى، وأَختمُ هذا الحديث الموجز عن الفقيد رحمه الله بعدد من الأبيات الشعرية التي نظمتها في رثاء الشيخ الوالد إبراهيم بن راشد الحديثي وفاءً لحقه عليّ رحمه الله حيث أقول:


سَلامُ مُحب صادقِ الحُب وامق
عَلَى الشيخ إبراهيم بدر الحقائقِ
عَلَى عَلَم في الدين والفضل والتُّقى
وفي البر والإحسان بين الخلائق
قَضَى نَحبَهُ مِنْ بَعْد قَرْن مَضى به
إلى رحمة الرحمن ذي العرش خالقي
بكته عيون قد أحبته.. دائماً..
وجللت الأحزانُ أبهى الحدائقِ
وشيَّعه الآلافُ تبكي لوالد
فكل يعزِّي الكُل بالدمع دافقِ
وأودع قبراً قد تشرَّف إذ حوى
على الشَّرف العالي بشُمِّ الشواهق
شريفَ المعالي عابداً ذا زهادةٍ
كريم المحيَّا عالماً.. بالدقائق
تقيا نقياً ألمعيَّا.. مهذَّباً
كريماً سليم القلب دمث الخلائق
فَلِلَّه من قاضٍ إمام محقق
أبيٍّ وفيٍّ عالمٍ بالحقائقِ
له في فنونِ العلم باع موسَّع
ونُهْمة مشتاقٍ إليه وشائق
يغوص بِفَهمٍ ثَاقبٍ متوقِّد..
لحل عويص المشكلات الدقائق
وإدراك ذي علم وحسن دراية
يفوق بها الأشياخ من كل حاذق
وحفظٍ وإتقان لفقه وسنة
وفي منهل القرآن كالبحر دافق
وقلب عقولٍ مطمئنٍ مُفَهِّمٍ
يرى أنما تحصيلُ ذا في التسابق
فيا رب يا رحمن أكرم رفاته
وبوئه في الجنات أعلا السوامق
وأسف ثراه بالعشيَّة والضحى
من المزن والأنداء وبل الفوادق
وختم كلامي بالصلاة مسلماً
على المصطفى الهادي لرب المشارق

(*) خطيب جامع الملك فهد في أبها


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved