Monday 12th January,200411428العددالأثنين 20 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

ثقافة الحوار ثقافة الحوار
د. أحمد بن يحيى الجبيلي/عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام - قسم علم النفس

الحوار هو ظاهرة إنسانية امتدت متوغلة في العقل البشري عبر أجيال وثقافات وحضارات متصلة وغير متصلة، والحوار كمفهوم فضفاض يفسر غالبا خلال الثقافات بحسب المحتوى والسياق الاجتماعي والأيديولوجي والحضاري ومنطق الأولويات والمصالح العليا، فقد يتفق على أطر وتتقاطع أخرى وقد يقيد أو يطلق، ولكنه في النهاية تقسمه عوامل مشتركة تجعل له أرضية تمكن لمثل هذا المفهوم أن يقف على قدميه كآلية جماعية متاحة بالسوية متى ما توافر عدد من الشروط الخاصة لخصها باولو فريري في كتابه «نظرات في تربية المعذبين في الأرض» فقد أشار إلى أن الحوار يجب أن يقوم على الحب العميق للناس والتواضع لهم والإيمان بالخير والإنسانية، وأضاف أن «الحوار لا يمكن أن يتوفر في غياب حب عميق للعالم وللناس فالحب هو أساس الحوار، ولا يمكن أن يوجد في علاقة سيطرة، إذ إن السيطرة تحاور من أجل الذات لا من أجل الآخرين». ويضيف كذلك «لا يمكن للحوار أن يوجد دون تواضع فكيف بوسعي التحاور إذا كنت ألصق الجهل دوما بالآخرين ولا أدرك على الإطلاق جهلي؟ كيف بوسعي التحاور إذا كنت أعتبر نفسي مختلفاً عن بقية الناس وأعتبر الآخرين مجرد «أشياء» لا أجد بينهم «أنا» آخر؟ كيف بوسعي التحاور إذا كنت أعتبر نفسي عضواً في مجموعة من الخلصاء الانقياء الذين يملكون الحقيقة والمعرفة، وكيف بوسعي التحاور إذا كانت النقطة الأساس بالنسبة إلي هي النخبة؟ كيف بوسعي أن أتحاور إذا كنت رافضاً لمشاركة الآخرين، بل إنها تثير استيائي؟ كيف يمكن لي أن أتحاور إذا كنت خائفا من أن أزاح وأعزل ويسبب لي مجرد هذا الاحتمال الهلع والضعف؟ ويضيف فريري يحتاج الحوار إلى إيمان عميق بالإنسان، إيمان بقدرته على فهم الأشياء وإعادة فهمها، على الإبداع وتجدد الإبداع، إيمان بمهمته في أن يصبح أكثر اكتمالاً إنسانياً «الذي هو ليس امتيازاً للنخبة، بل حق بالولادة لجميع الناس» ويخلص فريري إلى «إن الحوار بصفته قائماً على الحب والتواضع والإيمان، يتحول إلى علاقة أفقية، عاقبتها المنطقية هي الثقة المتبادلة بين المتحاورين، وسيكون ثمة تناقض في التعبير لو لم يسفر الحوار المحب المتواضع والملىء بالإيمان - عن خلق هذا الجو من الثقة الذي يؤدي بالمتحاورين إلى شراكة أوثق. وبالعكس فمن الواضح أن مثل هذه الثقة مفقودة في ظروف العداء خلال الحوار. فالحب الزائف والتواضع الزائف والثقة الضعيفة بالإنسان لا يمكن أن تولد ثقة، إذ أن الثقة تتوقف على الدليل الذي يقدمه طرف إلى أن الأطراف الأخرى عن نواياه الحقيقية الملموسة، ولكنها لن تتوفر إذا كانت أقوال ذلك الطرف لا تتطابق مع أفعاله. فقوله شيء وفعله شيء آخر لا يمكن أن يبعث على الثقة كما هو تمجيد الديمقراطية وتكميم أفواه الناس، وكذلك الحديث عن الإنسانية ومن ثم إنكار الإنسان».
هذا الطرق الثقافي النفسي الاجتماعي لقضايا الحوار الداعي للإصلاح مبني على الرؤية التاريخية والفلسفية من خلال استقراء فريري لتاريخ عظماء الإصلاح البشري وحيثيات وماهية استخدام أسلوب الحوار كوسيلة ونسق يراد به الخير وإثبات حق الإنسانية والدفاع عن الآخرين قبل الذات.
وهنا تبرز حقيقة الحوار كظاهرة إنسانية عندما تتجلى تلك الشروط من خلال التضحيات.
ولنا عبرة في أعظم مصلح مر على تاريخ الإنسانية والبشرية جمعاء رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما استخدم أساليب الإصلاح والحوار من أجل الإنسانية لا من أجل الذات فإيمانه وصدقه وحبه وتضحياته صلى الله عليه وسلم أقامت خير أمة أخرجت للناس، وعندما نعيش سيرته العطرة نجد النضال والتضحية من أجل الإنسانية وفي سبيل الله ولم تكن لمكتسبات شخصية أو بناء ذات متلذذة، فباع كل شيء من أجل الإيمان والمبادىء التي عاش ومات في ظلها. عايش وتفهم حاجات الصغير قبل الكبير وحاور العامة قبل الخاصة وكان ييمم برسالته شطر من أرعى السمع أو صد عنه، خاف على البشر قبل أن يخاف على شخصه وعائلته ولا أقول مكتسباته فقد عاش بأبي هو وأمي حياة الكفاف وأقل برغم إقبال الدنيا وطواعيتها له، فما كان لحواره إلا أن يصل شغاف القلوب، ونالت مبادئه أطراف الدنيا وأقاصيها، فهو مدرسة وقدوة مشت على الأرض صلى الله عليه وسلم.
وفي مدارس الحوار وثقافاته الإنسانية تسمق قامات طوال وتجارب عالمية حري بنا دراستها واستلهام كيفية الاستقاء منها لسياق العطاء بالرأي والجهد والبذل والتضحية في سبيل الإنسانية والوعي وفهم الذات والآخرين وتقديم حوار وبرامج لها صلة قوية باهتمامات الأفراد والجماعات وآمالهم ومخاوفهم المتصلة بالواقع. ومن خلال تحليل الحوار كظاهرة إنسانية سنكشف شيئاً وهو جوهر الحوار نفسه أي الكلمة، والكلمة أكثر من كونها مجرد وسيلة، تجعل الحوار ممكناً، فنجد في داخل هذه الكلمة بعدين وهما: التفكير والعمل وتفاعلاتهما، فالتفكير وحده عاجز، والعمل بلا تفكير ضرب من العبث، ولا يمكن للوجود الإنساني أن يكون صامتاً فالناس لم يتم بناؤهم في صمت، بل بالتفكير والكلمة والعمل.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved