Friday 9th January,200411425العددالجمعة 17 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

أبعاد كلمة خادم الحرمين 2 /2 أبعاد كلمة خادم الحرمين 2 /2
محمد بن سعد الشويعر

وخادم الحرمين في كلمته العميقة، لا يطلب من العلماء تطبيق المقولة: من جهل شيئاً أنكره، لكنه يوجَّه إلى حاجة الأمة مع تقارب ثقافات العالم: اتصالاً وتعاملاً، إدراك، ماغزت به الأمة: والتعامل مع ذلك وعلاج الآثار وتطويع البرامج الموجهة بعد استيعابها لخدمة الإسلام.. وهذا ليس بعسيرعلى ذوي الصبر والاحتساب، ومن صدق من الله في النية والعمل، سهل الله مراده، ويسر عليه ما استعصى على غيره، وانفتحت أمامه مغاليق الأمور، لأن الله يقول {وّاتَّقٍوا اللَّهّ ويٍعّلٌَمٍكٍمٍ اللَّهٍ}.
فالعلم من الله يهبه لمن يشاء، وييسره لمن يعلم أن فيه الخير والإخلاص. وإذا كان حافظ ابراهيم قد عاب على من انتقص اللغة العربية، في استيعابها للمخترعات الحديثة، وأفحم ذلك القائل ببراهين، فإننا اليوم يجب أن نصارع الثقافات والأفكار بما هو أقوى وأمكن، ونواجه التحديات بما يبرز شمولية الإسلام وعالميته، لكل ما تتفتق عنه مقاصد خصوم الإسلام، في رميهم تعاليمه بالقصور وعدم القدرة على مواكبة المسيرة في المستجدات الحديثة اعلامياً واقتصادياً، وغير هذا مما يطرح من شبهات، وما ذلك إلا أنه دين يقوم على السماحة والتيسير، وفي تعاليمه حل لكل معضلة تعترض.
بل يجب أن ننفذ إلى عقولهم بما يعطيهم عمقاً في الفهم، بأن ديننا وبما في تعاليمه وثوابتنا، من حرص على أسلمة المعرفة ما يرضي نزعة في النفوس، وقرن ذلك بالنتائج المحسوسة، في تعاملنا مع تلك الأمور المدخلة علينا، من باب: مخاطبة الناس بما يعرفون وبما يدركون، حتى لا يكذَّب الله ورسوله.. كما يروى عن علي رضي الله عنه.
ولئن كان خادم الحرمين - حفظه الله - قد أنار الطريق للعلماء، لإدراك التحديات الخارجية، وماذا تعنيه من أبعاد يحسن بالعلماء ادراكها، والسبق إلى البدائل الأنفع للبشرية، والأثبت لمكانة الإسلام، الذي أصلح الله به حياة الأمم، قروناً متطاولة، لم يقف دونه حجر عثرة، بل اعتراف المفكرين في ديار الغرب والشرق المنصفين: بأن حضارة الغرب لم تقم في شتى العلوم والمعارف إلا على ما أبدعه المسلمون، ودون في تراثهم، بل نراهم يعيبون على من أراد من جلدتهم، طمس آثار تلك المعارف، ويلومون من أحرق الكتب، ومن ادعى السبق لبعض المخترعات، وهو قد سرقها من علماء المسلمين، وادعاها لنفسه: وليس حمية أو عداوة، ولكن عرفاناً بالفضل لأهله وسبقهم في خدمة البشرية.
وإنما يريد - حفظه الله - حفز الهمم، وترسم خطى الرعيل الأول من هذه الأمة في التسابق العلمي وإبراز مكانة الإسلام وما تعنيه شريعته من سعادة للنفس البشرية، وإسعاد الأمم في أرض الله، وبسط ما تبحث عنه مما ينقذها من الخواء الفكري، والخوف من الافتراضات التي تطرح، والشبهات التي يراد بها بلبلة الفكر وإغواء الجاهل، في رغبة لتلمس المخارج.
وقد ربط خادم الحرمين التحديات الخارجية، بما جدَّ من تحديات داخلية، تمس أمن الأمة، وتشوه صورة الإسلام الناصعة، أمام الأمم، موضحاً: أن هذه الهنات قد سجلها التاريخ مرات عديدة، حيث قارب حتى لا تصاب الأمة باليأس - بين الحاضر المعهود، بالقديم المرصود، وذلك عندما قال: فقد شهدت الأمة، مع كل هجمة على كيانها، تحديات داخلية، حاولت المسَّ بالتوازن بين الواجبات والحقوق، وبالعلاقة بين الناس من خلال فكر منحرف.. ثم قال ليبث الطمأنينة في النفوس: لكنها تلاشت واندثرت، وأصبحت أثراً بعد عين.
وفي هذا تنبيه إلى أن العدوَّ يتحين نقاط الضعف، ويسعى في تلمس الثغرات التي يأمل بدخوله منها وجود خلل من الداخل يعينه على ما يسعى إليه، ولكنَّ الله سبحانه يجعل لهذا السبب ما يوقفه وفق المثل: ربما صحت الأبدان بالعلل، حيث تشعر الأمة بهذا الخطر، فيلتئم شملها مع قيادتها، في وحدة يأمر الإسلام بها {واعًتّصٌمٍوا بٌحّبًلٌ اللَّهٌ جّمٌيعْا ولا تّفّرَّقٍوا}. وتتعاضد في درء هذا الخطر.
وشواهد هذا في تاريخ الإسلام كثيرة، مرصودة في سجلات التاريخ، لأن الله سبحانه أكد بأكثر من مؤكد بحمايته لهذا الدين، وتأييده لمن تحمس في الدفاع عنه، قولاً وفعلاً.. فقال سبحانه: {إنَّا نّحًنٍ نّزَّلًنّا الذٌَكًرّ وإنَّا لّهٍ لّحّافٌظٍونّ} وقال: {إنَّا لّنّنصٍرٍ رٍسٍلّنّا والَّذٌينّ آمّنٍوا فٌي الحّيّاةٌ الدٍَنًيّا} وقال تعالى: {وكّانّ حّقَْا عّلّيًنّا نّصًرٍ المٍؤًمٌنٌينّ}.
ولما كانت المصائب تجمع المصابين، فإن التحديات الموجهة في عصر العولمة، لأمة الإسلام توقظ الهمم، وتحرك الشعور إن شاء الله لأن كل فعل له رد فعل.. حسب النظرية العلمية.
وهذا البلاغ الذي وضعه مجلس التعاون الخليجي، في مؤتمرهم الأخير قاعدة في مكافحة الإرهاب، دعا فيه خادم الحرمين العلماء والدعاة المخلصين، لمعالجة مشكلة الجهل بأحكام الإسلام الصحيحة، من خلال إيضاح الفقه الإسلامي بالأسلوب الذي يتيح للمسلمين وعي أحكامه، ويساعدهم على ربط تصرفاتهم بها، ويعرفهم على التعامل مع القضايا المستجدة، ويرشدهم إلى التعاون والسلوك المستقيم، وهذا يحتاج إلى تعاون بين مجامع الفقه، وكليات الشريعة وأقسام الفقه وأصوله في الجامعات الإسلامية ومراكز البحث فيها، والأمل أن تتولى رابطة العالم الإسلامي التنسيق لتحقيق ذلك. ولكي تمتد الجسور، وتخرج الأعمال بنتائج فقد رأى حفظه الله : أن المملكة ستدعم ذلك التعاون، وما يحتاج إليه، ثم مكّن هذا العمل لأهميته بالمبادرة حيث قال: والأمل أن تضعوا في هذه الدورة مرتكزات وقواعد وتعريفات للمشكلات التي تحتاج إلى إيضاح، وخاصة: في الخطة التي جاءت في هذه الكلمة:
رسم طريق العمل في خمس نقاط مهمة، ذات أثر في تصحيح المفاهيم، وتأصيل المرتكزات التي يقوم عليها العمل المثمر، كعناصر تبحث واحدة بعد أخرى، مثل تصحيح الخلل في مناهج التكفير التي ظهرت لدى بعض المسلمين من خلال الحوار والندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام، ثم التصدي للفتاوى الشاذة بالحجة الشرعية، وتعريف الغلو وتوضيح أنواعه، وبيان خطره على عقيدة المسلم، ومعالجة فتنة التكفير التي تطل برأسها في بعض المجتمعات الإسلامية، وتحديد دلالات المصطلحات الشرعية التي تثار بشكل خاطئ بسبب الجهل بحقيقتها، وما تنطوي عليه من فكر.
وهكذا نرى كلمة خادم الحرمين تحتاج إلى وقفات لما اشتملت عليه من قواعد رصينة، وتوجيهات رائدة في محاصرة الأفكار الوافدة، التي ينفر منها قلب المسلم المخلص لدينه، والحريص على المحافظة والرعاية، لما تحث عليه تعاليم شرع الله سبحانه، من عطف ومحبة، وأخوة وحماية للحرمات، فهي تحمل خطة عمل بعناصرها ومعالم تعين الباحث في تلمس المداخل النافعة المعنية في حل ما طفح على السطح من تحديات داخلية وخارجية.
وتستمر هذه الكلمة في وصف الداء، ومساعدة العلماء في تلمس الدواء، حتى تلتئم الجراح، ويطهر الله المجتمع الإسلامي في المملكة أولاً، وخارجها ثانياً من آثار ما علق بأذهان الشباب ممن لُبِّس عليهم ولا يريد من وراء ذلك بهم، ولا بأمتهم إلا الشر والفساد، وما على العلماء ومنابع العلم من كليات ومجالس ومراكز بحث، إلا أن تتعاون مع ولاة الأمر، لتسير في درب مهدته بخطوات عملية، هذه الكلمة التاريخية التي جمعت فأوعت واستحوذت على الاهتمام العالمي: قيادة واعلاماً.
فوائد الصدقة:
أورد ابن كثير في تاريخه، حكاية اسرائيلية: بأن ملكاً من الملوك، نادى في مملكته: إني إن وجدت أحداً يتصدق بصدقة، قطعت يده، فجاء سائل إلى امرأة فقال: تصدقي عليّ بشيء فقالت: كيف اتصدق عليك والملك يقطع يد من يتصدق؟
قالت: أسألك بوجه الله إلا تصدقت عليَّ بشيء، فتصدقت عليه برغيفين، فبلغ ذلك الملك، فأرسل إليها فقطع يديها.. ثم إن الملك قال لأمه، دليني على امرأة جميلة لأتزوجها.
فقالت: إن ها هنا امرأة ما رأيت مثلها لولا عيب بها، فقال: أي عيب هو؟ قالت: مقطوعة اليدين، قال: فأرسلي إليها، فلما رآها أعجبته - وكان لها جمال - فقالت: إن الملك يريد أن يتزوجك، قالت: نعم إن شاء الله، فتزوجها وأكرمها. فخرج على الملك عدو، فنهض إليهم، ثم كتب إلى أمه، انظري فلانة فاستوصي بها خيراً، وافعلي وافعلي معها.
فجاء الرسول فنزل على بعض ضرائرها فحسدنها، فأخذن الكتاب فغيرنه وكتبن إلى أمه، انظري إلى فلانة فقد بلغني أن رجالاً يأتونها، فاخرجيها من البيت، وافعلي وافعلي.
فكتبت إليه الأم انك قد كذبت، وانها لامرأة صدق، فذهب الرسول إليهن، فنزل بهن فأخذن الكتاب فغيرنه فكتبن إليه، إنها فاجرة وقد ولدت غلاماً من الزنا.
فكتب إلى أمه: انظري إلى فلانة، فاجعلي ولدها على رقبتها، واضربي على جيبها واخرجيها.. فلما جاءها الكتاب قرأته عليها، وقالت لها: اخرجي فجعلت الصبي على رقبتها وذهبت، فمرت بنهر وهي عطشانة، فنزلت لتشرب، والصبي على رقبتها، فوقع في الماء فغرق، فجلست تبكي على شاطئ النهر.
فمر بها رجلان فقالا: ما يبكيك؟ فقالت: ابني كان على رقبتي وليس لي يدان، فسقط في الماء فغرق، فقالا لها: أتحبين أن يرد الله عليك يديك كما كانتا؟ قالت: نعم، فدعوا الله ربهما لها فاستوت يداها، ثم قالا لها: أتدري من نحن؟ قالت: لا قالا: نحن الرغيفان اللذان تصدقت بهما، ساقنا الله إليك في محنتك.
[البداية والنهاية 9:312 ـ 313].


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved