Monday 5th January,200411421العددالأثنين 13 ,ذو القعدة 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قولبتنا للآخر قولبتنا للآخر
د. عبدالرحمن الحبيب

سألت مثقفاً عربياً كبيراً: لماذا في ظنك نحن متأخرون؟ قال: إنه الغرب وتآمره مع العملاء! قلت: طيب، لماذا هم متقدمون؟ قال: نحن منحناهم العلوم، ألا تعرف أن كل ثقافتهم العلمية سرقوها من تراثنا وهم لا يزالون ينهبون خيراتنا!! يعني مصائبنا منهم، وتقدمهم منا؟
التناقد أو النقد هنا يتوجه نحو الإدانة القطعية للآخر في أية قضية خلافية.. فهو يبدأ بالتنديد بالخصوم وتبرئة المسلمين، ثم قدح غير العرب.. ثم ذم غير بلاده.. ثم غير منطقته.. ثم غير مدينته، طائفته، قبيلته، حزبه.. حتى يصل إلى ذم كل الناس بمن فيهم جيرانه وأقرباؤه وتبرئة ذاته في أية قضية خلافية! طبعاً نحن نقول قضية خلافية جدلاً، فهذا النوع من المثقفين العرب لا يرى أن ثمة قضايا خلافية فكل القضايا ثوابت، ومحسومة سلفاً لصالحه!!
بل وصل الأمر أن أصبح بعض المثقفين أشد قسوة من السلطات العربية.. ألم تقم ولا تزال بعض السلطات العربية بحماية بعض الكتاب من تيارات فكرية ومثقفين؟! وأعرف بعض رؤساء التحرير يحذفون بعض مقاطع من مقالات كتابهم ليس تنفيذا لتوجهات السلطة أو معايير الرقيب بل حماية للكاتب من بعض المفكرين أو الرموز الثقافية التي ترفض النقد ما لم يكن موجهاً للخصوم!!
ملاحظتي في أغلب النقودات العربية، على اختلاف مشاربها الإيديولوجية أنها تنتقد الصورة المفترضة والرمز المتخيل في الآخر بغض النظر عن واقع حال الرمز ودون استيعاب مدلولاتها وآراء المدافعين عنها.. الحالة هنا هي رفض شامل يبدأ وينتهي بالمصطلح أو الرمز أو الصورة.. عداء للظاهري من الآخر أو المصطلح دون إدراك السياق التاريخي والحضاري الذي ظهر منه، ودون اهتمام بمحتواه الفلسفي والفكري وإمكانية فرز المفيد والضاربين أفكار أمم تطورت وتقدمت أو محاورة الحجة بالحجة.
وتعوزنا في مجتمعاتنا العربية ممارسة التناقد المتوازن «دون معايير مزدوجة» كمنهج تقويمي، ونفتقر إلى حرية النقاش، نفتقرها منذ الطفولة، حين كانت عقولنا طلقة مرنة مخيالة.. كان الأب مستبداً برأيه في المنزل، والمدرس وحشاً في الفصل، وعلينا أبناء وتلاميذ أن ننصاع للأوامر دون مناقشة أو اقتناع أو إعمال الفكر والنقد. هنا تبنى اللبنة الأولى لضيق الأفق والتعصب وكره النقد، لبنة قد يستعصي اقتلاعها فيما بعد. سيكون من اليسير على الاستبداد أن ينمو، وسيغدو من السهل إقصاء الآخر وتثبيط الملكات والمواهب. سيكون من العسير الاعتراف بالأخطاء أو اكتشافها، ناهيك عن استشرافها وإبداع الحلول.
أول ما يمكنني ملاحظته من الأساليب التي تشوه فهمنا للآخر «سواء كان فرداً أو تياراً أو أمة» هو عدم الاطلاع على أعماله الفكرية، أو النقل من خصومه أو مناصرينا، حيث يكتفي غالبية كتابنا بنقل آراء ثقاتهم أو مناصريهم التي تقدح في أفكار الآخر. هذه الانتقائية في النقل يستتبعها الاستشهاد بأقوال أفراد قلة ينتمون للآخر أو يعيشون بين كنفاته ويتهمونه بطرق حادة ويثنون علينا، ورغم أن مثل هذا الاستشهاد له قيمة معرفية لا تنكر في فهم الآخر، إلا أنه لا يعول عليه كثيراً بمعزل عن الاستشهاد بنصوص وقناعات التيارات الرئيسة لدى الآخر، فهؤلاء القلة لا يمثلون تيارات أساسية في مجتمعات الآخر، ومن ثم فإن لهم رؤيتهم أو مواقفهم الخاصة «غير الممثلة جيداً» من الأحداث والوقائع.
والانتقائية في النقل النظري عن ومن الآخر تقود إلى الانتقائية في الواقع المعاش عبر التقاط الأمثلة الواقعية السيئة النادرة وتعميمها أو اعتبارها نموذجاً للآخر، وعلى العكس بالنسبة ل «نحن» ففي كل حالة من النشاطات البشرية ثمة أخطاء، وعندما تتحول طريقة تعاملنا مع الآخر إلى رصد أخطائه دون غيرها فإننا لن نتمكن من فهم أفكاره ومنطلقاته وأهدافه في سياقها الطبيعي.. وهذا يشبه كثيراً من الأمثلة الشاذة التي تتناولها وسائل الإعلام مثل رجل يقتل أبناءه، أو كلب وقطة يرثان ملايين الدولارات، ونحن ننسى أن هذه أمثلة نادرة، ومن أجل ذلك نشرت في الإعلام لغرابتها وليس لأنها تمثل طبيعة وحضارة الآخر، ويلتحم تعميم الأمثلة السيئة النادرة مع تحكيم يفتقد الموضوعية، عبر محاكمة الآخر حضارياً وفقاً لمعاييرنا الأخلاقية وليس للمعايير المشتركة بيننا كالأمانة والنزاهة والنشاط في العمل واحترام الوقت.
ما ذكرته آنفاً من وسائل معرفية وأدوات تحكيم غير متوازنة في فهم الآخر، يؤدي إلى أهم مكون لتشويه الآخر في قالب خيالنا، وهو الخلل الإدراكي في فهمه، أو ما اسميه عدم استيعاب كيمياء النشاطات الحضارية للآخر أو الشبكة المعقدة لمنظومته الحضارية، فإذا اجتمع هذا الخلل مع التصور العدائي المسبق يتهيأ أفضل مناخ للمعلومة الخاطئة المحرفة أو المحورة، ونقل أفكار ومعلومات مزيفة، واختلاق قصص مؤامرات وهمية تلوي أعناق الحقائق وتفسر الأحداث لكي تنسجم مع ذلك الخلل الادراكي والقولبة أو التأطير المسبق، وهنا يتحول كل نشاط أو فكرة أو نظرية جديدة من الآخر إلى شر مستطير ما لم يثبت العكس الذي قد يمتد لسنوات تزيدنا تأخرا، وقد تكون الفكرة الجديدة «كالحداثة، الليبرالية، العلمانية، الرمزية، البنيوية، التفكيكية، ما بعد الحداثة، العولمة.. الخ» بمفاهيمها وتطبيقاتها سيئة عموماً وقد تكون غير ذلك، ولكننا لن نفلح في مجادلتها ونقدها واتهامها بعدالة دون استيعاب مدلولاتها من داخلها ومطالعة آراء المدافعين عنها قبل أن نتخذ أي موقف آخر.
فإذا كنا نشتكي من أن صورتنا عرباً ومسلمين لدى الغرب مقولبة بإطار يضعنا ككتلة واحدة من شعوب متخلفة وأصحاب فكر يشجع على الإرهاب، فإننا أيضاً نحمل صوراً جاهزة عن الآخرين بكل تعدد مشاربهم واختلافاتهم، وقد يبدو المشهد النقدي متكافئ الخطل بيننا وبين الغرب تحديداً، ولكننا في حاجة أن يفهمونا أكثر من حاجتهم لفهمنا بحكم تفوقهم، فالاقتراب من الحياد والتجرد والموضوعية أمر أساسي في التقييم من أجل إدارة الاختلاف مع الآخرين.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved