ربما يعتقد عدد من مؤلفي «أو معدي» الكتب المتخصصة، أن النشر العلمي عبء لا طائل من ورائه ما لم يحقق الهدفين الآتيين أو أحدهما: الأول، العائد المادي المجزي، والثاني: التعريف بالكاتب لدى فئات معينة «وربما خاصة» في المجتمع، وهناك عدد آخر قد ينظر للنشر العلمي بمفهومه التربوي التعليمي باعتباره وسيلة من وسائل نشر العلم والمعرفة بين خاصة الناس وعامتهم، وقد يكون هناك قلة من الناس ترى في نشر الكتب والبحوث عوائد أخرى غير ما ذكر!!
لكن الملاحظ في المكتبة العربية بشكل عام وفي مكتباتنا المحلية بصفة خاصة أن النشر العلمي لا يزال بحاجة لأن ينظر إليه باعتباره صناعة يمكن أن يمثل الكتاب فيها مصنعاً متكاملاً يحتاج فريقاً من الصناع والمهندسين والمشرفين الذين يمكنهم انتاج منتج متقن متسق مع أصول تلك الصناعة ومواصفاتها القياسية، وإذا كان مؤلف الكتاب شخصاً واحداً، لزمه أن يقوم مقام جمع من الناس بما يملك من تأهيل ومهارة، وبذلك لزم أن تزخر المكتبات المتخصصة بالعديد من الكتب والبحوث التي يتم انتاجها في هذه البيئة العلمية المهنية المتميزة، ولعل من المفارقات العجيبة أن تجد كتباً على رفوف المكتبات لأساتذة وباحثين لم يخوضوا تجربة البحث العلمي المستقل في هيئة بحوث صغرى تحكّم وتنشر في المؤتمرات والمجلات العلمية المتخصصة، حيث يعد ذلك بمثابة التمرين والتأهيل لإصدار الكتاب، ولعل من أيسر الأمور على بعض الأساتذة إصدار كتاب يضاف للمكتبة في حين يشق عليه انتاج بحث أو دراسة تطبيقية مهمة، وهذا - بالطبع عندنا - أما في الدول التي سبقتنا في هذه التجربة فإن أعظم ما يواجهه أستاذ الجامعة - خصوصاً - إصدار كتاب علمي في التخصص الذي ينتمي إليه.
إن الإسهاب الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة في اصدار الكتب المتخصصة، ونشرها وعرضها على رفوف المكتبات، مدعاة لأن يعيد المؤلفون والناشرون النظر في ضوابط النشر، فليس كل ما يمكن كتابته يصلح لأن يكون كتاباً ومرجعاً علمياً يضاف للمكتبة العلمية، إن عقل القارئ أمانة في عنق كل من يكتب أو يتكلم، ولذا فقد يكون من الملائم أن لا نمسك بالقلم ما لم تكن لدينا فكرة واضحة ورسالة نبيلة نؤمن بها، وبخاصة عندما يكون الأمر متعلقاً بالكتب العلمية التي ينُظر إليها باعتبارها مرجعاً ومصدراً للمعرفة الإنسانية فكراً، وممارسةً، وحكماً، على الناس والأشياء، إن اختراق مجتمع محصن بالكتاب المحكم المفصل أمر فيه نظر، غير أن ذوبان العلم والمعرفة المتعمقة في معرض السعي وراء المشاركة مع الناس وحسب، مدعاة لمزيد من الاختراق كنتيجة طبيعية لتشكل سواتر مجتمعية هشة وقابلة للاختراق، دون محميات علمية ومعرفية واثقة وموثوق بها، فالكتاب ليس زينة، ولكنه قيمة علمية ومهنية عظيمة ترشد به المجتمعات وترتقي في سلم الحضارة الإنسانية، والتساهل في هذه القيمة يعد تساهلاً بحاضر المجتمع ومستقبله.
(*) عميد كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام
|