Sunday 12th october,2003 11336العدد الأحد 16 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

شي من شي من
الشيخ محمد بن إبراهيم وتمويل الإرهاب
بماذا رد سماحته عندما سئل عن التبرعات الخيرية قبل 40 عاماً ؟
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ

في كتاب «العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بأقلام تلامذته ومعاصريه» جاء في ص 99: أنه سئل عن إنشاء صندوق لسائقي السيارات، فقال في الجواب ما نصه: «ان اقتراح الذين اقترحوا جعل الصندوق مشروعاً «خيرياً» يحتاج الى تقييد، لأنه وان كانت طرق «الخير» مفتوحة أمام الراغبين إلا أنه ينبغي «معرفة ما وراء ذلك» لئلا تكون وسيلة إلى «استباحة» أشياء لا تجوز تحت اسم الشيء المسموح به»..
عندما قرأت هذه الفتوى المقيدة، واهتمامه «الحذر» بألا يقود الاندفاع نحو أعمال الخير إلى ما لا تحمد عقباه تحت مسمى «عمل الخير»، تذكرتُ ما عرضه التلفزيون قبل أسابيع للموجودات التي تم ضبطها من قبل السلطات الأمنية في إحدى خلايا الإرهابيين في المملكة، والتي كان من ضمنها «صناديق» للتبرعات الخيرية، مثل تلك التي تعودنا على رؤيتها في المساجد، أو في كبرى المحلات التجارية، والتي تدعو المسلمين الى التبرع لأعمال الخير. بعض هذه التبرعات كما هو واضح الآن انتهت الى تمويل الارهاب، «تحت اسم الشيء المسموح به» كما تنبه الشيخ قبل ما يربو عن خمسة وثلاثين عاماً على أقل تقدير. هنا تبدو عبقرية هذا العالم الفذ، واحترازه في الفتوى، وفهمه الاجتماعي، بالإشارة الى نقطة في غاية الأهمية والتي فحواها ان العمل الخيري قد يكون «ذريعة» لأعمال الشر في النهاية، تماماً كما هو الوضع الذي نعاني منه الآن مع تمويل الإرهاب بحجة «العمل الخيري».
ومن الواضح هنا أن «حذره» رحمه الله نابع من قراءته لواقع عصره، ومعرفته لنوايا بعض معاصريه، وقدرته على «تصور» أن العمل الخيري قد يستغله بعض الانتهازيين لتمويل عكس ما يحمله العنوان، وهو هنا يتبع قول عمر بن الخطاب: «لستُ بالخب ولا الخب يخدعني»، والخب معناه «المخادع»، وهذا ما يُسوغ لنا القول: ان العالم الحقيقي الذي يضطلع بمهمة الفتوى، لا يكفي ان يكون فقط متبحراً في العلوم الشرعية، عارفاً بدقائقها وتفاصيلها، وإنما يجب أن يكون إضافة الى ذلك ملماً بثقافة عصره، فطناً، متنبهاً الى سد الثغرات التي قد يلجُ من خلالها بعض أصحاب النوايا المغرضة لتوظيف أقواله عكس ما قصد منها. وهذا بالتحديد ما نعاني منه اليوم من بعض من اضطلعوا بالفتوى، أو نذروا أنفسهم لها، وهم قد يملكون التأهيل الشرعي نظرياً، غير أنهم لا يملكون «الأفق» الذهني الواسع في تصور تبعات وأبعاد واحتمالات فتاواهم، الأمر الذي يجعلهم لا يتحرزون في الفتوى عند إجابتهم عن بعض الأسئلة مثلما فعل الشيخ، مما قد تؤدي بهم في اجاباتهم عن أسئلة المستفتين الى عكس ما كانوا يقصدون. ولو تتبعت بعض الأسئلة «المغرضة» التي تُطرح على بعض علمائنا اليوم، لوجدت ان بعضها «مُلغم» بالشكل الذي يكون ظاهرها «التقوى» بينما هدف السائل منها لا علاقة له بالقتوي قدر علاقتها بغايات في نفس يعقوب لا تخفى على الحصيف.. وأحياناً يتم «تصميم» السؤال بالأسلوب والطريقة وتضمين السؤال «معلومة» قد تؤدي بالعالم «غير الفطن» الى «الفخ» الذي يريد السائل من العالم أن يقع فيه، فيتم توظيف هذه «الفتوى» في أمور كيدية أو سياسية بحتة لا علاقة لها بالدين. ومثل هذه الظواهر أصبحت من الكثرة هذه الأيام الى درجة اشاعت الفوضى، واحدثت كل هذا الهرج والمرج في قضايانا الدينية والاجتماعية كما نشاهد في كثير من الأحوال.
و«فقه الواقع» أصبح من أهم أدوات الفتوى في عصرنا الحاضر. فتحقيق «مصالح المسلمين» التي هي أحد أساسيات مقاصد الشريعة، لا يمكن تلمسها طلباً لتحقيقها إلا إذا كان المفتي ملماً بمعرفة واقع عصره، عارفاً بأحوال معاصريه، مدركاً من خلال المتابعة والرصد والتأمل والتفكير ما يضرهم وما ينفعهم، وما يكتنفهم من أخطار على المستوى الداخلي والخارجي على حدٍ سواء ليتسنى له بالتالي «الإفتاء» على ضوء هذه المعطيات، تحقيقاً لمقاصد الشريعة.
وما أحوجنا اليوم الى تفهم قول ابن القيم - رحمه الله - في «إعلام الموقعين» «فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن «المصلحة» إلى «المفسدة»، وعن «الحكمة» إلى «العبث» فليست من الشريعة وإن ادخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved