Tuesday 7th october,2003 11331العدد الثلاثاء 11 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

إدوارْد سعيد: سؤال جيِّد إدوارْد سعيد: سؤال جيِّد
انور عبدالمجيد الجبرتي

* اختار الاستاذ الناقد سعيد السريحي في تأبينه للدكتور إدوارد سعيد أن يتحدث عن حفاوة إدوارد سعيد بالأسئلة الجيَّدة، وهذا اختيار جيد، من جانب مهم، من شخصية، ادوارد سعيد، وحياته، ومغامرته المستمرة، في البحث عن الحق والعدل والإنسانية.
* السؤال الجيد عند ادوارد سعيد هو الذي يستحق ان نبحث عنه وهو الذي يقودنا عبر ممرات واضحة، وهو الذي يغنينا عن متاهات كثيرة وجدل عقيم والتفافات منهكة. معظم الإجابات الحائرة تبحث حقيقة عن سؤال جيد.، وأكثر «الغموض» المحير هو ضحية اسئلة خائبة وجزء كبير من الجدال والمراء والكلام الباهت المكرر نتاج لغياب السؤال الصحيح. وكثير من حواراتنا الحلزونية تتهافت فيها اجابات لاهثة مستعجلة تستجدي السؤال القاطع قبل الإجابة الحاسمة. وكثيرا ما نقذف ب «اجابات» مرتبكة والتفافية وضبابية لأننا نخشى مواجهة سؤال جيد وحقيقي وحاسم.
* يذكرني الحديث عن ادوارد سعيد والسؤال الجيد، بالمرة الأخيرة التي رأيت فيها ادوارد سعيد وسمعته وقد كانت المرة الوحيدة أثار فيها اهتماما واضحا وحفاوة ظاهرة ب «السؤال».
* أتى ادوارد سعيد إلى الجامعة التي كنت أدرس فيها بدعوة من رابطة الأدب الانجليزي بالجامعة وقرأنا عن موعد محاضرة استاذ الأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا النيويوركية ذي الأصول العربية الفلسطينية فاستثار ذلك فضولنا ورغبتنا في الحضور.
* كان ادوارد سعيد في اواسط او اواخر الثلاثينيات من حياته وكان الزمن هو منتصف السعبينيات الميلادية وكان الحضور امريكيا أكاديميا متأنقا. كانت هناك ربطات عنق وشعر مصفف وأحذية لامعة وبدلات انيقة واجواء مفعمة ب «الاتيكيت» الانجليزي المختلف عن اجواء الجامعة الامريكية المبهدلة ببنطلونات (الجينز)، والأحذية الرياضية والوجوه غير الحليقة، وحركات الفم المسترسلة في مضغ قطع العِلْك.
* كانت المحاضرة ذات تقنية اصطلاحية متقنة وكانت مظاهر الحفاوة والترحيب من استاذة الانجليزية في الجامعة واضحة وكان ادوارد سعيد نجما بارزا.
* وجاءت فترة الاسئلة. كانت هناك اسئلة متخصصة واجابات متخصصة وحوار متخصص. وكان نصيبنا من فهمها قليل ومحدود ولكننا بالتأكيد استمتعنا بالاثارة التي فجرها طالب اميركي ثوري دخيل على اجواء الأدب الانجليزي وأناقته وانضباطه وحانق على اجواء الاكاديمية التي تقطن الأبراج العاجية ومفعم بالغضب على مآسي الأمم وقضايا الشعوب. وهذا النموذج الطالبي مألوف ومعروف في اوساط الجامعة الاميركية وهدفه اشاعة الاضطراب الثوري في «المكان» الهادي ونشر «الفوضى» في «الزمان» المستكين وبعثرة الذهن المسترسل المستمتع خاصة اذا كان مرتديا بذلة انيقة ومنتعلا حذاء نظيفا.
* وقف ادوارد سعيد يستمع الى الصوت الهائج المتدفق بالحديث عن الامبريالية والبرجوازية والطبقات الكادحة ومؤامرات جامعة كولومبيا بقيادة ادوارد سعيد وأمثاله ضد الثورة العالمية وحقوق الشعوب وإشغالهم لأذهان الشباب ب «جوزيف كونراء» و«شكسبير» و«جيمس جويس». كان ادوارد سعيد يستمع في هدوء وصبر وسكينة. وكانت هناك ابتسامة خفيفة على شفتيه، ونظرة ماكرة عميقة في عينيه وشباب متوثب في قامته الأنيقة ووجهه الوسيم وشعره الكثيف الأنيق.
* عندما انتهت الخطبة الثورية الهائلة التي مزقت هدوء الحشد الانجليزي الأنيق سحب ادوارد سعيد نفسا عميقا ووضع نظارته وقال بعد صمت معبر قصير رافعاً يديه بحركة مسرحية متقنة أين السؤال؟ ما هو السؤال؟ إلى أين هرب السؤال؟ اسعفوني بالسؤال، اتحرق شوقا الى السؤال ثم نظر الى حيث كان يجلس صاحب المحاضرة الثورية، كان قد ترك المكان فور انتهاء «مداخلته» وقال: يا سيدي انا حزين جدا من أجلك لأنك لا تملك سؤالا ثوريا حقيقيا وأنا حزين جدا على كل الذين لا يملكون الأسئلة وأنا أبحث عن الذين يسألونني اسئلة تهزني وتجعلني أتصبب عرقا ومع ذلك فأنا أشكر الطالب الذي خرج لأنني تخيلت للحظة أنني اقف مكانه واطرح سؤالا او اسئلة كثيرة محرجة في نفس الإطار الثوري المتحمس وكنت اعرف انني لن استطيع الإجابة على تلك الأسئلة.
* اختلط التصفيق بالضحك واكتشف الحضور جانبا مهما من شخصية ادوارد سعيد المهتم بالسؤال الجيد ولمسوا إرهاصات ادوارد سعيد المنفى في متاهات الاسئلة والدرويش المتجول في أنحاء الحقيقة والانسان، والفلسطيني اللاجئ دوما إلى وطنه، والأميركي المسافر كادحا إلى عروبته، والعربي الملتزم بإنسانيته، والمسيحي المنصف،. المتعلق دون تزلف بإسلامية ثقافته.
* ادوارد سعيد شخصية صادقة، عفوية الاندفاع، ثاقبة التفكير، انسانية النزعة، وسيبقى لنا منها كثير مما سنستمر في الحديث عنه. لكن الجانب الأهم هو انه نجح في رحلة حياته المثيرة في ان يصنع من نفسه سؤالا جيدا ينتظر الطرح دائما.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved