Friday 3rd october,2003 11327العدد الجمعة 7 ,شعبان 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

قصة قصيرة قصة قصيرة
معانقة الورق
منيرة مرزوق البقمي

اليتيمة عندما يشتد بها البكاء بحرقة في الخفاء.. عندما تكاد أحشاؤها تتمزق من فرط الحزن.. عندما تئن المفاصل وتشتكي الشرايين نتيجة لمرارة الظلم.. تبحث بكل ما منحها الخالق من قوة عن الملاذ، الملاذ الذي يلفها بكل معاني العطف والحنان، عندما تبكي اليتيمة التي تبلغ الآن الخامسة والعشرين، وقد عركتها أقدار الحياة إلا أنها ما تزال تلك اليتيمة التي فقدت والدها قبل أن تراه، فلم تلتق عيناها بعينيه، وقبل أن تلامس كفاها كفيه، فلم تذق لأحضان الأب طعما، ولم تعرف لكلمة بابا نكهة.. تلك «الوحيدة» التي عرفت زوج الأم قبل أن تعرف الفطام، وذاقت في الطفولة من الحياة مرها ولم تجرب حلوها.. الحزينة التي حاولت أن تجد الحضن الدافىء لدى والدتها بشتى الوسائل وبحثت بكل الطرف عن البديل عن والدها الراحل، تلك اليتيمة التي صدمت بمرارة الواقع الذي تربعت وسيطرت عليه المصالح، فالأم لم تعد توليها ذلك الاهتمام، وتلك الرعاية لأنها أنجبت أولاداً وهي تضطر للاهتمام بهم أكثر وأكثر لأن زوجها «الغني» ليس متفرغاً لهم، فاعتنت بهم على حسابها، الأم شديدة التسلط ولكنها تملك قلباً طيباً كسرته الأيام فصنعت منها تلك المستبدة القاسية، كانت اليتيمة تطمع في المزيد من الحب الذي لم يفض من قلب أمها، بل أنه من الجميل أن سقطت منه قطرة في الخفاء، ورغم أن والدتها أيضاً حساسة.. إلا أنها من النوع الكتوم.. فتحبس المشاعر وتجيد كتمانها، وحتى الأمومة عندها تكاد تختنق داخلها، ولأنها تسقي أبناءها التربية، فقد تفننت في سقي ابنتها هذه الخصلة حتى تشربتها وتشبعت بها، هكذا أنشأتها إذ علمتها منذ الطفولة المبكرة أن الحب عيب وأن الإفصاح عن أي شعور بالمودة ما هو إلا فضيحة! حتى ولو كانت هذه المشاعر بريئة، حتى لو كانت لوالدتها.. لأخواتها.. لصديقتها، ولعل هذا ما هو إلا عقدة كامنة في نفس الأم منذ الصغر.. فظلت «يتيمة» تبحث عن ملاذ يهون جراحها ويهدئ من شتات ذهنها فوجدته في كتاب الله، فارتاحت الروح وبقيت في النفس تلك الطفلة التي تحتاج حتماً إلى ذراعي الأم الناعمتين اللتين تلتفان على جذعها وذلك الصدر الرحب الذي يستقبلها بكل حفاوة، لم تعانق أمها ولو لمرة واحدة طيلة حياتها.. ربما العلاقة الحسية بينهما اقتصرت على القبلات التي لا تأتي إلا في المناسبات وقد لا تأتي..! فعانقت الورق.. وعشقت القلم وتيمت بالكتابة، ولأنها متأثرة بما علمتها إياه والدتها ظلت تكتب وتمزق، وتبدع وتخبئ، وذلك يوم وقعت يد أمها على وريقة حملت سطوراً عاطفية من ابنتها كانت قد كتبتها إلى المجهول، فثارت وصرخت.. وقالت «يا للفضيحة»!! فازدادت مراقبتها وانتظم تفتيشها في حاجيات ابنتها التي لم تستطع هجر ما تحب وأخذت تكتب في ذات الخفاء الذي اعتادت البكاء فيه.. كل شيء يتعلق بالمشاعر صار عندها بالخفاء، حتى البكاء.. علمتها والدتها إنه من العيب أن تبكي أمام الناس وأن تجعلهم يرون الدمعة، إنه الضعف بعينه، والناس لا يبحثون إلا عن شيئين «الفضيحة ونقاط الضعف»!
نمت اليتيمة وتبلورت شخصيتها وبرز جمالها ولمع الذكاء في عينيها إلا أن مشاعرها وعواطفها لم تتبلور ولم تبرز ولم تلمع.. وتمر الشهور تتلوها الشهور.. وتأتي السنين ويشاء الله أن تتزوج اليتيمة ولكن تتزوج بمن؟ بيتيم آخر.. كانت زوجة تحمل في داخلها من المشاعر ما لا حد له، إلا أنه مكبوت بالداخل، بل في أعمق أعماق النفس ولكنه لم يجد من يحسن استخراجه ويجيد استغلاله لينعم بطاقة هائلة من الحب الذي سيخصه وحده.. لم يفلح زوجها في اكتشاف هذا الكنز الذي بداخلها، والذي تدفنه في أعمالها حتى تراكم، كما أن زوجها هو الآخر كان معقداً من زوج أمه الذي كان يصب جام غضبه على ظهره وحده متفننا في استخدام شتى أنواع السياط وما على هذا اليتيم - كسائر أحوال بعض الأيتام - إلا أن يمتص غضبه دون أن يحاول أن يكون له ردة فعل إزاء الظلم الذي يلقاه هو وأمه من هذا الرجل المتعجرف، وها هو الآن متزوج ممن تكبت مشاعر الحب وهو يكبت الغضب.. فلم يحسن معاملتها ولم تتقن معاملته! فشتمها عند أول زلة، وبصق في وجهها عند أول هفوة، وضربها عند الأخرى، وطلقها عند الغلطة...
وها هي تكفكف دموعها خفية أكثر من السابق وبصمت وألم لا يدركه أحد ولا يفقهه أديب.. فما هو ذنب اليتيم وجرم اليتيمة ما دامت الظروف تقسو على كل منهما من كل جانب، إنهما ضحيتان من ضحايا ظلم البشر.. وما هما بمذنبين.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved