لا يختلف اثنان في الدور الحيوي والكبير الذي يؤديه النقد في عملية الإصلاح والبناء فالنقد سواء كان نقداً ذاتياً أو من الآخرين ما هو إلا خطوة مهمة من
أجل معرفة الخطأ لتجنبه والحذر منه.
لذا كل محب للخير لنفسه أو لمن حوله فهو لا يأخذ من النقد موقفاً متشنجاً بل ينظر للنقد والناقد نظرة يعلوها الشكر والثناء وطلب معاودة النقد.
لكن (!!!) حينما يلبس النقد لبوس الحسد والكره فيكون الناقد يهذي بما يؤذي ويهرف بما لا يعرف حينئذٍ يكون هذا الناقد اضحوكة للآخرين بل وأضحوكة أمام نفسه إن كان لديه حياء أو خجل.
يذكر قديماً وحديثاً ان من أسوأ ما يقال ان يأتي أحدهم فيعمم بالحكم النقدي فيقول «لا يوجد في الدنيا من يقول هكذا» أو يقول «هذا الأمر لم يعمل به»، تذكرت هذا حينما أطل أحدهم في برنامج إعلامي نافياً فيما معناه ان تكون هناك دولة تنسب إلى شخص حتى ولو كان هذا الشخص هو مؤسسها.
وهو طبعا يعرض بمسمى وطننا الغالي المملكة العربية السعودية (!!!)
مع العلم بأن المتحدث بهذا الكلام أثنى على نفسه كثيراً بالعلم بالتاريخ في البرنامج نفسه، وهون من شأن مخالفه في العلم بالتاريخ في البرنامج نفسه.
وعليه أليس من المهم ان لا يكون هذا الناقد موضوعياً على الأقل في طرح وجهة نظره أولاً ثم دقيقا فيما يقول وان لا يرتجل الكلمات دون أدنى وازع من خلق أو ضمير تاريخي.
قال سبحانه وتعالى: {وّلا يّجًرٌمّنَّكٍمً شّنّآنٍ قّوًمُ عّلّى" أّلاَّ تّعًدٌلٍوا اعًدٌلٍوا هٍوّ أّقًرّبٍ لٌلتَّقًوّى"} تقول هذا وأنت تزعم انك صاحب طرح إسلامي!!
وأنا في هذه السطور سأبتعد بالقارئ عن دهاليز السياسة إلى البحث التاريخي ذاكرا له العديد من الدول الإسلامية «العظمى» قديماً وحديثاً التي اتفق الجميع على نسبتها على اسم شخص إما ان يكون هذا الشخص جد المؤسس أو المؤسس نفسه دون أدنى نقد من متعالم أو متفلسف.
وحتى نكون منصفين للناقد وأمثاله ولا نتحدث بنفس اللغة التعميمية «الظالمة» أحب ان أوضح ان الحديث في هذه المسألة على قسمين:
الأول: أن ينسب المواطن إلى المؤسس في الجنسية والنسبة، مثل ان يقال مواطن سعودي
الثاني: ان ينسب البلد كله إلى المؤسس في النسبة مثل ان يقال السعودية.
وحتى يعلم هذا الناقد ان القسم الأول والقسم الثاني لها ما سلف في تراثنا بل وحتى عصرنا الحاضر ولم يجعلها احد هي القضية الأهم، بل من يتأمل في كتب التاريخ يجد ان هذا من فضل الله الذي لا يمنح إلا لمن بذل الجهد والعرق في تأسيس كيان فكان له ان أبقى الله له ذكرا، ومن الغريب ان «من أعظم» الدول في تاريخنا الإسلامي من نسبت لأجداد المؤسسين ولم نجد في كتب التاريخ من أقام الدنيا ولم يقعدها كما الحال ببعضهم، فالدولة الأموية والدولة العباسية إلى ماذا تنسب؟!!
هل قيل لها الدولة الإسلامية في دمشق أو الدولة الإسلامية في بغداد؟!!
هذه اصطلاحات درج المؤرخون عليها وكتبوا كتبهم على هذا الأساس، وكان الناس يتعاملون معها بحد معين من «العقل والموضوعية»!!!
وكانت العملات في تلك الفترة تسمى «درهم أموي أو دينار عباسي» ولم يأت أحدهم ليطالب بتحرير الاقتصاد من الذل والعبودية!!
وبعد هذا أريد أن أقول إن النفوس لا تنفر من الناقد الناصح والمخلص لقضيته حتى ولو اختلف معه في بعض الأمور.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال «ما وضع الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه» ولنعد الآن إلى الحديث عن موضوعنا من زاوية تاريخية، فمن ناحية نسبة المواطن إلى اسم مؤسس البلد فهناك الكثير منها.
(1) الدولة العثمانية التي غطت أراضيها الشرق والغرب كان المواطن يسمى فيها كما هو نظامها «عثماني»!!!!
(2) المملكة المتوكلية اليمنية كان المواطن يوصف في أوراقه الرسمية بمتوكلي «نسبة إلى المتوكل على الله» ولم تكن هذه القضية المثارة على قادة اليمن مع انه أخذ عليهم ما أخذ مما هو مثبت في كتب التاريخ.
وأما تسمية الدول نفسها باسم مؤسسها فهي أكثر من ان تحصر وأشهر من ان تذكر ولكن حسبي ان أنقل لكم مادة لطيفة كتب بها إليَّ سعادة الدكتور خالد بن عبدالكريم البكر المحاضر بجامعة الملك سعود وهو مؤرخ قدير وملم بتاريخ الأندلس حيث تكرم علي بهذه الكتابة بعد ان طلبت رأيه في هذا الموضوع فكتب إلي مشكوراً بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الأستاذ يوسف العتيق
تحية واحتراما
أظن «وليس كل الظن إثماً» ان العلاقة بين الإنسان والأرض تبادلية على جميع المستويات، فهي تمنحه خيراتها وهو يسعى في اعمارها بيده وعقله، وقل مثل ذلك في أسماء الأعلام والأمم والأماكن والبلدان، فهو تارة يعطيها اسمه وتارة تجلله باسمها، هذا هو التفاعل مع البيئة، وذلك هو منطق التاريخ، وتلك هي حقائق الجغرافيا.
ولو اننا استعرضنا تاريخنا الإسلامي لوجدنا نماذج كثيرة من الكيانات السياسية القائمة في دار الإسلام الفسيحة، درج الناس على تسميتها بأسماء مؤسسيها أو حكامها، ولم يجد أحد من علماء العصر أدنى غضاضة في ذلك، ولم يُنقص من أطراف الأرض شيئاً، ففي كرسي الخلافة قامت الدولة الأموية «المنسوبة إلى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف = جد الأسرة الحاكمة»، ثم ورثتها الدولة العباسية «التي حملت اسم العباس بن عبدالمطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم» وفي قبة الإسلام أعني جزيرة العرب نشأت الدولة الصليحية باليمن على يد مؤسسها علي بن محمد الصليحي، وفي الاحساء والبحرين قامت الدولة العيونية بزعامة عبدالله العيوني، وفي المشرق الإسلامي نجح الحسن بن زيد في تكوين الدولة الزيدية بطبرستان «250هـ» بينما أسس يعقوب بن الليث الصفار الدولة الصفارية بخراسان «254هـ»، واستأثر بنو أسد بن سامان بسمرقند حيث قامت الدولة السامانية «261هـ».
وفي مصر نشأت الدولة الطولونية على يد القائد التركي أحمد بن طولون «254هـ»، ثم خلفتها الدولة الاخشيدية برئاسة محمد بن الاخشيد بن طغج «323هـ».
وشهد المغرب الإسلامي عدداً من الدويلات المنسوبة لمؤسسيها، مثل دولة الأدارسة في فاس، نسبة إلى إدريس بن عبدالله بن الحسن «172ه»، والرستمية في الجزائر المغرب الأوسط نسبة إلى عبدالرحمن بن رستم «160ه»، كما قامت في تونس دولة الأغالبة المنسوبة إلى إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي «184ه»، ثم قامت الدولة الفاطمية بالمغرب، سنة «297ه» ومنه انتقلت إلى مصر.
وما هذه إلا مختارات سريعة، ويمكن للباحث المدقق ان يحصي مئات الأمثلة في هذا الموضوع بقراءة بعض الكتب المتخصصة، ككتاب: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي، لمؤلفه: ادوارد فون زامباور.
ولا تحسبن هذا التقليد خاص بالعرب والمسلمين فقط، وإنما هو شائع عند الأمم الأخرى، فقد نشأت في مصر دولة اغريقية، عرفت باسم «دولة البطالمة» نسبة لمؤسسها بطليموس الأول أحد قادة الاسكندر المقدوني وذلك في القرن الرابع قبل الميلاد.
وأخيراً، أتساءل: من أين جاءت «أمريكا» رمز الحضارة والتقدم في عالمنا المعاصر بهذا الاسم لنفسها؟ يقول الباحثون: انه مشتق من اسم ملاح اسباني مغمور زار المنطقة إبان حركة الكشوف الجغرافية، واسمه «امريكو او امريجو فسبوشي»، فهذا مثال حي لأرض اكتسبت اسمها من اسم رجل واحد، وتذكر أيضاً ان «تركيا» اتخذت اسمها من اسم الشعب القاطن في أراضيها «الأتراك»، وإلا فهي تعرف تاريخيا باسم «آسيا الصغرى» أو «الأناضول».
وبعد هذه النقول ألا يحق لنا ان نقول بكل أمانة من منا يرفض النقد أو النصح والتوجيه لكن ما يغير ما سمعناه من ذلك ؟؟.
وما أجل ما قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
|
وفي الختام فأبناء هذه البلاد الطيبة المباركة يضعون أيديهم في أيدي ولاة الأمر في وطننا الغالي لتحقيق تطلعات وآمال الجميع في دولة حضارية تسعى دوماً إلى تحقيق الرفاه لمواطنيها والرخاء لمجتمعها في جو يسوده الأمن والسلام.
ولا يسعني هنا سوى شكر من أفادني عند كتابة هذا الموضوع وأخص منهم الدكتور خالد البكر واستاذي الفاضل محمد أبو حمرا والأستاذ حمد الحماد.
|