Saturday 28th june,2003 11230العدد السبت 28 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

من يحمي المريض كعميل؟! من يحمي المريض كعميل؟!
عبد العزيز السماري

ترفع أغلب المستشفيات شعار «المريض أولاً» كعلامة على سمو العلاقة بين المريض والطبيب في العيادة.. تلك العلاقة التي حظيت بتميز في روابط البشر منذ القدم، وتجاوزت لقرون عديدة ما يجتاح المجتمع العربي في الوقت الحاضر من طبائع الحضارة المزيفة، فالأهداف المادية وهامش الربح وتكوين الثروات من معاناة المريض غزت أسواقنا منذ سنوات قليلة، بعد ان رفضتها الشعوب المتحضرة، فصارت تطارد المريض في رحلته الدائمة بحثاً عن الأمل، وتبدد مدخراته أحياناً استغلالاً لحاجته المستمرة إلى الشفاء، والمريض هو ذلك الإنسان الذي تستدعي حالته عناية صحية لعلة مصاب بها، وهو من يتألم ويعاني ويصبر على ما أصابه من سقم، وحالة المعاناة جاءت من كلمة «Patient»، وهي مشتقة من مصدر لاتيني pati، أي «to suffer».
خلال العقود الأخيرة، صاحب تطور تلك العلاقة بين الطبيب والمريض في بعض المجتمعات الغربية كأمريكا تحديداً، دخول رجال الأعمال إلى قطاع العناية الصحية التجارية وميدان تقديم العلاج للمريض كهدف للربح المادي، وادخل تخصيصه مصطلحات جديدة في عالم المرض والألم والمعاناة، فالمريض تحول في إعلانات تلك الشركات إلى «عميل»، أو «مستهلك» أو «زبون»، وتبدل مصطلح الطبيب إلى «مقدم لخدمة العناية الصحية»، ورغم ذلك إلا ان الفئات الفقيرة والمسنة لم يطبق عليها ذلك النظام، فالحكومة الأمريكية تضمن لها تأميناً صحياً.
وهذا التطور يحمل في طياته خصوصية أمريكية بحتة، وترفضه مجتمعات مجاورة لها، فمجتمع الصحة الكندي بكل فئاته من أطباء وممرضين، يرفض تماماً إطلاق مصطلح عميل أو مستهلك على المريض، ويعتبرها وسيلة غير مشروعة، ويمنع القانون في أغلب المقاطعات أخذ «بنس» واحد من المريض لقاء تقديم عناية صحية، وكندا كمثيلاتها في بلاد أوروبا الغربية، تطبق الضمان الصحي «الحكومي» غير الهادف للربح، وترفض خصخصة العناية الصحية لأسباب إنسانية.
وفي استفتاء أجاب عليه أكثر من ثلاثمائة زائر لعيادة خارجية في نيوكاسل «استراليا» 1998، فضل 85% منهم ان يعامل ويطلق عليه مريض، وبرر بعضهم رفضهم لمصطلح عميل أو مستهلك لأنه يعني علاقة تجارية، وقد تتأثر حقوق المريض في الرعاية الصحية سلباً وإيجابا حسب خلفيته الاجتماعية والمادية عند معاملته كعميل أو مستهلك، وهو ما قد يعني خروج الجانب الإنساني من أفق تلك العلاقة التاريخية.
وعلى المستوى المحلي، مازالت الأمور غير واضحة على الأقل بالنسبة لي، فالحكومة لا تزال تتعهد بتقديم العناية الصحية للمواطن وبتوفير الأدوية والأسرة للمرضى، ولكن على صعيد آخر، يتدافع المستثمرون السعوديون إلى السوق ويتسابقون على إنشاء مستشفيات خاصة في أكثر مدن المملكة، ويحصلون نظير ذلك على تسهيلات وقروض مادية كحافز على دخول سوق العناية الصحية، وبالفعل نجح بعضهم في تكوين مشاريع جبارة وأرباح فائضة، ولعل الخبر الذي تناولته الصحف المحلية عن استثمار أحد مقدمي الخدمة الصحية في السوق المحلية بأكثر من مائة مليون ريال في دولة مجاورة يعني ان تجار الصحة استطاعوا تحقيق أرباح خيالية، وان انتقال تجارتهم في صحة الإنسان إلى خارج الوطن، دليل على أرباحهم العالية التي بالتأكيد أهم مصادرها مدخرات المواطن وصندوق توفيره، وبمقياس التوجه العالمي والمحلي الجديد، حركة مضادة تماما لدعاوى محاربة الفقر، فتوصيات الأمم المتحدة الأخيرة تدعو لضمان الرعاية الصحية، وذلك كأحد سبل مكافحة الفقر.
وأطلق غزو ثقافة التخصيص في وسائل تقديم الرعاية الصحية، إشارة البدء لاستخدام مصطلح عميل ومستهلك عند الحديث عن المريض، وان مقدار الخدمة الصحية تحددها قدرة المريض على الدفع، ويجدر الذكر ان السوق المحلية بعد الغزو الجديد، تحفل بتفاوت كبير في أسعار العناية الصحية، فالمستشفى الخاص يملك الحرية الكاملة في رفع أسعار خدماته أو تخفيضها، وتقدر أحياناً نسب التفاوت بين المستشفيات إلى ثلاثة وأربعة أضعاف، كما تشتد رحى معركة خارج أسوار السوق بين المستشفيات الخاصة وشركات التأمين، فكثير من الفحوصات لا يملك الطبيب أو مزود الخدمة الصحية إجراءها إلا بعد أخذ موافقة من شركة التأمين، مما يؤخر في بعض الأحيان علاج حالات الطوارئ.
وقد تضرر بالفعل بعض المرضى من جراء ذلك، وطالته مضاعفات شديدة بسبب التأخير في إجراء فحوصات التشخيص وإجراءات العلاج، بسبب خلاف التفاصيل بين المستشفى الخاص وشركة التأمين الخاصة، وتدور محاور الخلاف بينهما حول قسمة الربح من تكاليف صحة الإنسان، فالمستشفى يكسب أكثر عندما يتمكن من إجراء فحوصات وعمليات جراحية وتنويم سريري، بينما تعتمد أرباح شركات التأمين على عاملين أحدهما صحة الإنسان، فالإنسان السليم من الأمراض يعتبر هدفاً استراتيجياً للأرباح، بينما العامل الآخر هو العمل على الحد من إطالة التنويم وإجراء الفحوصات التشخيصية والعلاجية بقدر الإمكان، والخاسر الأكبر في سوق الصحة، هو ذلك المريض الذي بلا تأمين والذي اختار ان يتسوق صحياً في المستشفيات الخاصة في ظل غياب وعي وادراك بمعضلته الصحية، ليصبح صيداً سهلاً لمن يحرص على رفع أرباحه المادية بأي وسيلة.
ويأتي تدني مستوى الخدمات الصحية الحكومية خارج المدن الكبرى أحد أسباب ارتفاع تلك الأرباح، كما أدى تسلل أطباء المستشفيات الحكومية إلى السوق السوداء إلى تدهور مستوى الرعاية الصحية المقدمة، وضاعف ذلك انسياق تلك المستشفيات خلف ذلك التوجه، مما شوه بصورة غير مباشرة رسالة بعض المستشفيات العملاقة، فالجري وراء الكسب المادي، يعني اعطاء الأولوية لمن يدفع بغض النظر عن حالته الصحية.. ويساعد على تفاقم الوضع غياب آلية واضحة للرقابة الصحية عن المستشفيات بشكل عام.
فإن رضخنا لما يحدث وقبلنا على مضض سياسة الأمر الواقع في سوق الصحة المحلية وتكيف ضمير المجتمع المسلم على ان المريض بكل ما يحمل من ألم ومعاناة وأسى وفقر، أصبح عميلاً ومستهلكا وهدفاً للربح المادي، وجب علينا للأسف ان نتعامل مع هذا الواقع عبر تلك المفاهيم، ومن خلال وحشيتها التجارية، بالعمل على حماية المستهلك المريض من قرصنة تجار الصحة، والمطالبة بتحكيم القانون ومراقبة منظمات حماية المستهلك الأهلية لتلك العلاقة، وان تكون العلاقة القانونية بين المريض أعني العميل والمستشفى واضحة، وتخضع لها جميع المعاملات التي تحدث بينهما، أي ان تكون قابلة دائماً للمراجعة عند طلب أحدهما ذلك، فإن شعر المريض أو أقاربه بعدم جدوى المعاملة أو تدني مستوى العناية الصحية التي تلقاها، أو ان خطأ طبياً قد حدث، فله كامل الحق ان يرفع قضيته أمام قضاء متخصص ومؤهل في تناول تلك القضايا.
وهو ما يعني ضرورة تأسيس محاكم قضائية ملمة بالشأن الصحي، وتوفر محامين متخصصين في شؤون العناية الصحية، وبناء عليه، يجب ان تتجاوز تقديرات التعويضات مبلغ «الدية» المتعارف عليه، فالمستشفى الخاص يحقق أرباحاً هائلة من وراء معاناة المريض، لذا يجب ان يكون مسؤولاً بصورة تامة عن أخطاء مزودي الخدمة الصحية في مؤسسته الخاصة.
ولنا ان نتساءل بمرارة: هل فقدنا الأمل للأبد في ضمان صحي حكومي غير هادف للربح المادي؟ وهل يعني ذلك اننا وصلنا لحالة اللا رجعة، إن كان كذلك؟ فمن يحمي إذاً المريض في وضعه الجديد كعميل أو «زبون»؟ وكيف ستتم حمايته في سوق صحية لا تحكمها قوانين وتسعيرة محددة، وتغيب عنها المحاكم والمحامون المتخصصون، ولا تتوقف مؤسساتها الطبية عن نشر إعلانات مخالفة لنظام النشر والإعلان في وزارة الصحة، وحافلة بوعود الوهم بالشفاء من أمراض، يستعصي علاجها في أرقى المستشفيات العالمية المتخصصة؟.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved