Tuesday 3rd june,2003 11205العدد الثلاثاء 3 ,ربيع الثاني 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

تعارض مصالح لا صدام حضارات..!! 1/2 تعارض مصالح لا صدام حضارات..!! 1/2
د. حسن فهد الهويمل

ما من أحد يصاب بصداع الرأس، وفقد الذاكرة، واضطراب النفس والفكر، إلا وله النصيب الأوفى من قراءة الخطاب السياسي والثقافي في كافة المشاهد العربية، وعليه كفل من تلقي طوفان الآراء المتناحرة، وركبان الثقافات المستكبرة المهيمنة، والمشاهد العربية تنوس بها بطائن سوء، تضرب ثوابت الأمة في الصميم، تحت مسميات جذابة، كالحرية، و«الديموقراطية»، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة. ولا تنفك عن التناحي بالإثم والعدون حول ما يسمونه بالثالوث المحرم: «الدين» و«الجنس» و«السياسة»، ولا تأخذ حذرها مما يعانيه العالم المغلوب من أزمات طاحنة، تقوض أمنه واستقراره، وتفرق شمله، وتستدرجه من حيث لا يعلم إلى المهاوي السحيقة.
والعالم اليوم يعيش حالة من الاضطراب والتوتر، وتنتابه نوبات من اللعب الكونية، والمؤامرات الدنيئة، والفساد، والتخذيل، والعلل الباطنة. وليس ببعيد أن تتزامن الانهيارات: الحضارية، والاقتصادية، والأمنية، والدستورية، وتتغير كل الخرائط الجغرافية، والتركيبات: السكانية والإثنية والطائفية، ويبدأ العالم في التشكل من جديد، كما بدء الحياة أول مرة يعود، وكأن شيئاً لم يكن من قبل، فالأيام دول، والثواني حبالى، يلدن كل عجيب، والناس لا يستقرون على حال، وكم من حضارات سادت، ثم بادت، والبقاء على الحال محال، «ومن سره زمن ساءته أزمان» ومن لم يتوقع الزوال بعد التمام، ولم يحسب الحساب الدقيق لما هو آت، يفجؤه الطوفان، كمن ينام في بطون الأودية في الأيام المطيرة، والشاعر الحكيم يقول:
«توقع زوالاً إذا قيل تم».
وفي الحديث: «عهدٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، حين سُبقت «ناقته»، وتألم الصحابة من تغلب أعرابي ب «قعوده» عليه، على حد:
«ما طار طير وارتفع.. إلا كما طار وقع».
والحضارة الغربية بلغت حداً لا مزيد عليه، لا من حيث الإمكانيات، ولا من حيث التعديات، وأقرب الحضارات إلى الزوال من تجمع بين «التمام» و«الظلم» وكيف لا و«العدل أساس الملك».
والقول في «صدام الحضارات»، و«تعارض المصالح»، مضلة أفهام، ومزلة أقدام، وكل رهان حولهما، يجد ما يطمئن أصحابه، فالمسألة من الاحتمال بحيث:
«لا يعرف الغادون فيها دربهم.. فكأنهم بمسيرهم غرباء».
وكل خائض في الحديث حول «الصدام» أو «التعارض» غريب يتقرى الأشياء بأنامله، إذ لا يتمكن عند استحكام الحلكة من قراءة الأشياء بعيونه، ولو عدنا نستقرىء واقع أمتنا بلمس، لوجدنا المسألة مرتبطة بتعارض المصالح، لا بصدام الحضارات. ولقد قرأت كتاب «صامويل هنتنجتون» «صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي» للمرة الثانية، ووجدت أنه صوت من الأصوات، وقد لا يكون أفضلها، وقد لا يدوم حضوره شاهدا على العصر، ولو ذهبنا نضرب الأمثال بما هو قائم، لإثبات أن المواجهات ليست وقفاً على الاختلاف في الدين وإن رآها «جيل كيبل» ماثلة للعيان في النصف الثاني من القرن العشرين، متجلية في الصراع بين «العلمانيين» و«المحافظين» بحيث يرى أن هذه المرحلة تمثل يقظة أو صحوة دينية كونية، أطلق عليها «ثأر الله» بحيث يميل إلى الرغبة في «أنجلة» أوربا، أي عودتها إلى «الإنجيل»، وها هو اليمين في «البيت الابيض» يستمد وقوده من أصولية مسيحية متصهينة، وقد يأتي من يقول ب «القرأنة» أي عودة العالم الإسلامي المتعلمن إلى القرآن، ولست أعني طائفة «القرآنيين».
أقول: لو التمسنا الأمثال الحية المؤكدة لصراع المصالح، لتبدت لنا الأدلة كفلق الصبح، مطروحة في الطريق. والمعوِّلون على «صراع الحضارات» وحسب، يتعمدون تهميش صراعات أخرى لا تقل عنها، ويتجاهلون العلاقات المصلحية والنزاعات الطارئة حول لعاعات الحياة الدنيا، ولقد كادت تفعل فعلها في المجتمعات الخيرة، وذلك عندما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم «الفيء» بعد الفتح في «غزوة حنين» على المؤلفة قلوبهم، ووكل المهاجرين والأنصار إلى إيمانهم، وهي مقاصد بعيدة المنال، لم يدركها بعض الصحابة و«سورة الأنفال» نزلت لتحسم التنازع حول الفيء في «غزوة بدر»، وهل أحد مثل صفوة الصفوة. فالمصالح عنصر مهم في عمليات الوفاق والنزاع الدوليين، وتجاهل المصالح أو الخلط بينها وبين الصدام الحضاري تفويت لثغرات مهمة. وإذ تختلف معالجة «تعارض المصالح» عن معالجة «صدام الحضارات» فإنه يلزم استحضار الحالين، لأن لكل حالة لبوسها. وعلى سبيل المثال فإن المعهود ذهنياً وواقعياً أن «المملكة العربية السعودية» حليف تاريخي، وصديق عريق «للولايات المتحدة الامريكية»، ليس في ذلك مواربة، ولا مداراة، نقول ذلك بلسان الحال والمقال، وكانت علاقات البلدين تزداد قوة ومتانة، يوم أن كانت المصالح مشتركة، ووجها النظر متطابقة، ويوم أن كانت أمريكا حمالة التوفيق بين الأطراف، ملتزمة بمنع التعدي على الحقوق والحريات، ويومها كان الإنسان السعودي أثيراً عند الإنسان الأمريكي، وكانت له معاملة خاصة، يلقاها في أي مكان من الولايات الأمريكية، حتى لكأنه واحد منهم، وخلال العقود السبعة التي مرت بها العلاقات السعودية الأمريكية، منذ اللقاء التاريخي بين الملك «عبدالعزيز» رحمه الله، والرئيس الأمريكي «روزفلت»، لم تتحول المملكة عن سلفيتها، ولا عن تمسكها بثوابتها الدينية، ولا عن مناهجها الدينية، فيما لم تتحول الولايات المتحدة الأمريكية عن رسماليتها وعلمانيتها، ولم يحصل في يوم من الأيام أي تماس بين الفكر السياسي الإسلامي السلفي للمملكة والفكر السياسي الديموقراطي العلماني لأمريكا. كان ذلك يوم أن كان الصراع على أشده بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولماَّ تزل المملكة ملتزمة بما عاهدت عليه، قائمة على أشدها في الدعوة إلى الله، متبنية لفكرة «التضامن الإسلامي»، ودعم الجمعيات والمؤسسات الإسلامية في قلب أمريكا، وكانت أمريكا تعيش غفلة الواثق، حتى إذا قصم ظهرها بالتفجيرات، وتبنى ذلك الإسلاميون، أخذت حذرها من الإسلام ودعاته، وفي مقدمتها المملكة، وباشرت المواجهة العسكرية. وحين تحولت من الحياد الإيجابي التوفيقي إلى الانحياز السلبي لقطبيتها وللصهاينة، وحين تعارضت تبعا لذلك المصالح، دب الخلاف بين صديقين تقليديين، وإن كان كل منهما يحيل إلى الإعلام المغرض، ويزكي المواقف الرسمية، إلا أن في الأنفس شيئاً، لماَّ يزل الطرفان يتكتمان عليه، ويحاولان إقصاءه، تهدئة للأوضاع، ومحاولة حكيمة لاجتياز المنعطف الخطير، حتى لا يراق الزيت على اللهب، ويتحول وميض النار إلى ضرام، وتلك الظاهرة العملية المعاشة تؤكد أن الخلاف مع الغرب، لا يحال كله إلى «صراع الحضارات»، ولا إلى اختلاف الديانات، وإنما يحال جلُّه إلى الظروف الطارئة والمصالح المتعارضة. المملكة يسوؤها الكيل بمكيالين، وتمتعض من تناقض المواقف، ففي القضية الفلسطينية، لأمريكا موقف منحاز لمصلحة اسرائيل، وفي الشأن العراقي لأمريكا موقف منحاز لمصالحها الذاتية، فالظلم والاضطهاد والفوضى واقعة على الشعبين الفلسطيني والعراقي، دون النظر في الشرعيات، وسيادة القانون، واستقلال كل بلد بشأنه. والاتقاء والمداراة والدفع بالتي هي أحسن شأن العقلاء، ولكن الأمر بلغ حداً لا يطاق، وما يتعرض له الشعب الفلسطيني لا يمكن احتماله، كما أن الموقف من الإسلام بعد الأحداث لا يمكن قبوله.
والمؤسسات الإعلامية حين تركز على الصراع الحضاري، وتستدير تعارض المصالح والظروف الطارئة، فإنما تبحث عن وقود للرأي العام من أجل كسبه. وكل زعيم تزداد حاجته للجبهة الداخلية، كلما تعقدت الأزمات، ومن ثم يلجأ إلى الصراع الحضاري ليذكي فيه كوامن الإيمان، فالإنسان متدين بفطرته، وإن تعلمن، وعلينا ألا ننظر إلى وحدة المشاكل من خلال منظور إقليمي آني ضيق، إن هناك رؤى وتصورات ودوافع بعيدة المدى، جاء على طرف منها صاحب كتاب «صدام الحضارات» وصاحب كتاب «نشوء وسقوط القوى العظمى» وكتاب «الإعداد للقرن الحادي والعشرين» ل «بول كيندي».
ومما لاشك فيه أن سقوط الاتحاد السوفيتي بهذه السرعة، وبهذه المفاجأة، وبهذا الشكل الدرامي، وعلى يد الجهاد الإسلامي، الذي باركته أمريكا، ولم تمانع من شحن الأنفس بواجب الجهاد، وحب الاستشهاد، له أثره في تأزيم الأزمات، ومما زاد الأمور استحكاماً تعجل أمريكا بعد غياب الاتحاد لسد الفراغ، واستيعاب المعسكر الشرقي بكل خلفياته التاريخية والثقافية، وبكل مشاكله الاقتصادية والإثنية والطائفية، وبكل رواسبه النفسية. وهذا الموقف المتسرع المرتبك، حداها لاستئناف سياسة مغايرة، لما كانت عليه من قبل، وحملها على إعادة ترتيب الأولويات والأصدقاء، والبحث عن معادل آخر، تثير به كوامن الشارع الأمريكي، هذا السقوط ربك أمريكا، وخفف من اهتمامها بمعسكرها الغربي، سعياً وراء استرضاء المعسكر الآخر، وسرعة احتوائه، ليتأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولأن صراع المعسكرين عريق، وله أعماقه المتجذرة في آفاق المعمورة، وله ثاراته وذيوله العصية الانقياد، ولأن الجهاد الاسلامي لعب الدور الرئيس في المواجهة مع الاتحاد المتداعي على يده، فقد أصبح من الصعوبة بمكان حسم إشكالياته بالطرق الدبلوماسية.
وكان أن التف الماركسيون حول أنفسهم يراهنون على أن الإخفاق الماركسي إخفاق تطبيق لا إخفاق مبادىء، فيما أسرع الإسلاميون للمطالبة بحقهم من «الأنفال» التي لم تكن لله ولا للرسول، ولكنها كانت لأمريكا التي استأثرت بكل الغنائم، ولأنها جربت نتائج الجهاد الاسلامي، وحصدت ثماره، فقد أوجست خيفة من لفظة «الجهاد» الذي حقق لها ما لم تكن تحلم به، نعم دعمته بالمال والعتاد والعدة والتأييد، وحمت ساقته ومقدمته، ولكنها لم تكن حاضرة الساحات ولا المغارات، وإذ نجحت في بنائه، فإنها لم تنجح في تفكيكه، ومن ثم لم تجد بداً من طرح مصطلح «الإرهاب» وانتزاع الموافقة العالمية على ملاحقته، وأخذ المقيم بالظاعن، ولقد ساعدها على ذلك وجود عصابات تمارس الإرهاب، وتحيل عملها إلى الإسلام، وما هو من الإسلام.
وإذ يكون الإرهاب الدموي الهمجي المتوحش قائماً ومستفحلاً وخارجاً على كل الأعراف فإن الإشكالية في اختلاف المفاهيم والمواقف، ودخوله بوصفه آلية من آليات الصراع المصلحي لا الديني، وحين نختلف حول مرجعيته، نختلف حول مشروعية مواجهته على الإطلاق، ذلك أن هناك مقاومة مشروعة يعدها البعض إرهاباً، وفي تلك الأجواء، تنفست الفتن النائمة، واختلط الجهاد والفداء والاستشهاد والمقاومة بالعنف والإرهاب، وطورد المحقون والمبطلون، واختلط المجاهدون بالعملاء والمأجورين. ووجدت أمريكا نفسها بين أصوات متداخلة، وحسبت أن كل خطاب ينازعها القطبية، ويقاسمها المكاسب، ومن ثم فوضت أمرها إلى الترسانة العسكرية، بدل أن تعالج أمورها من خلال المؤسسات السياسية، ولمثل هذا عواقبه الوخيمة، ونتائجه الباهظة التكاليف، وها هو العالم الثالث يتحول إلى ساحات دموية، تستهدف المصالح الأمريكية، وها هي ساحات الفكر والإعلام تحيل إلى مناهج الدراسة، وإلى الدعوة الإسلامية المباركة، والى ثوابت الدين، كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، وفي مقابل إحالة المرجفين، يأتي خطاب الإرهاب نفسه محيلاً إلى الإسلام، بحيث أصبح الإسلام مناط القول ونقيضه، ومن الخطورة بمكان الاختلاف حول البواعث. وهذه العمليات المدمرة، قد لا يكون للعالم الثالث فيها ناقة ولا جمل، ولكنه ناقلٌ لرسائل باهظة التكاليف.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved