|
قبل أكثر من عشرين عاماً يوم كان الشعر يشكل حياتي الاجتماعية والثقافية والأدبية كنت ذاك الوقت - وأعتقد لا أزال- مغرماً بالأدب، أسعى إليه سعياً حثيثاً، كانت كلية اللغة العربية شكلتنا تشكيلاً أدبياً، وجاء الأسبوع الأدبي الذي تنشره جريدة الجزيرة، ويشرف عليه الأديب حمد القاضي، فأكمل تشكيلنا كان الصراع الأدبي على أشده انقضت مرحلة، وجاءت مرحلة أدبية أخرى في تلك الأثناء شاع في الأوساط الأدبية «الثلاثائية» وهي ملتقى ثقافي أدبي اجتماعي تضم حشداً من الشخصيات الأدبية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في تلك «الثلاثائية الثقافية» اكتشفت أن الأمير بندر بن أحمد السديري شاعر، ومنذ ذلك الوقت أبديت اهتماماً بتجربته ولم يقتصر هذا الاهتمام على نشر شعره، وانما أخذ شكلاً حميماً، وقد كان أكثر من لقاء بين الأمير وبيني نطرح فيه قضايا الأدب والثقافة بصراحة وود، وكان الأمير أكثر صراحة ووداً في شرحه وتحليله وقد لمست إلى أي حد كان يهتم بالشعر والأدب والثقافة، وأدركت المكانة العالية التي يصنع فيها الأدباء.
كانت نسائم الليل الطري تنساب إلى تلك الحديقة الواسعة التي تتناثر حولها الأحواض، وكانت الاضاءة الخافتة التي تأتي من أسوار القصر تهب المكان سكوناً غريباً، كان الليل يطوي الظلام والشاعر يتلو تلك البقية من تلك الأبيات التي بدأ بها مساءه:
كان الوادي غير البعيد يضفي على أجواء الليل هدوءاً، والشاعر يقلب في تلك الأوراق القديمة، وينظر ناحية الألواح الخشبية، وأحياناً يعود بالذاكراة إلى تلك المسافات البعيدة يتذكر تلك الأيام الخوالي، بيوت الطين، أعواد الشبابيك القديمة. ولكن هيهات، فالرجوع في الزمن مستحيل:
كانت الفلسفة التي تبناها الشاعر في تلك الأبيات فلسفة غير مسبوقة (يا ليت لي عمرين). كان الشاعر أو الفيلسوف يقول (يا ليت لي قلبين أو عقلين)، ولكن لم يقل أحد (يا ليت لي عمرين)، وإذا كان الشاعر استهل تلك الأبيات بتلك الأماني الغائبة عن التفكير، فلأن ما في القلب يحتاج إلى زمن طويل، عبر به الشاعر بعمرين عمر يحيا به وعمر يعيشه:
صورة أعادت الشاعر إلى سنوات قديمة، ولكن تلك السنوات لم تمحها الذاكرة..والشاعر يستعيد تلك الصور، لأن ما في النفس باق من تلك الأيام البعيدة. صورة غابت في الزمن البعيد، ينقلها الشاعر بكل تفاصيلها الحسية والخيالية، وكأنه ينظر في «لوحة» «يوم اقبلت»، مرت سنوات على ذلك المشهد الذي لم تغفله الذاكرة، ولعل الشاعر فيما أظن يتذكر جزئيات المشهد صورة حاضرة في الذهن ولكنها باتت طيفاً:
صورة في الذاكرة لم يتبق من ملامحها سوى طلل دارس يمر به الشاعر كل يوم ولم ير منه غير ما يحزن القلب ويوجع الضمير: «أنقاض باب رادمينه بهيشه» كانت الذاكرة وفية وكان الإحساس (لبيت الحبيبة) حاضرا في القلب، حاضراً في الضمير، ولكن كيف رجع الشاعر في الزمن، وجاء به من أقصاه، ثم أراك صورة حية، وفي طرفة عين مر بك على أنقاض الصورة؟ قلائل أولئك الشعراء النابهون الذين يوقفون تجاربهم الشعرية على حركة السنين. في نوفمبر عام 1984م نشر الأمير بندر أبياتاً اعتبرت ذلك الوقت- ولعلها تعتبر الآن - من أفضل ما كتب. وقد يكون لحظة قول القصيدة كان في صفاء ذهني تام استحضر معاني كل بيت، أراد أن يمتحن اللفظ الشعري في نقل الذات العاطفية. كنا في واشنطن وكان الوقت يسمح لنا بالقراءة والإنصات، كان الجو بارداً والمطر يراود النزول، وقد نزل، وكانت الاضاءة الشاحبة التي تبدو في أقصى الغابة قد اختلطت بقطرات المطر. كان لوناً باهتاً غريباً وكان اللوح الزجاجي الذي يفصلنا عن الغابة والفضاء البصري الذي يوردنا على أطراف الأشجار، قد أصاب إحساسنا بالوله على الشعر:
هل كان الشاعر يستقي صورة في الذاكرة صورة دمع الحبيبة بصورة قطرات المطر على اللوح الزجاجي التي كانت كالدمعة على «صفحة» الخد؟ غريبة تلك الحال التي تأتي فيها الأشياء متواردة ومتشابهة ومختلفة:
وإذا كانت «دمعة حبيبي» من تلك القصائد التي تقرأ ولا تمل، فلأن الرجل يأتي بأقصى ما في العاطفة، ولأنه يستحضر حالة المعاناة الحقيقية استحضاراً حقيقياً. وبعد ذلك نشر قصيدة «الشعر».
كانت (الثلاثائية) ومن بعد ذلك (الأحدية) منتدى أدبياً وثقافياً راقياً تضم حشداً من الشخصيات المهمة: أساتذة الجامعات، رجال الصحافة، رجال الدولة، رجال الاقتصاد، الشعراء، رجال الأعمال. كانت ذات تأثير في تشكيل الوعي الاجتماعي، وكان الفكر والشعر يسودان جلسات الأمسية.. وكان بندر بن أحمد السديري يضفي على تلك «الجلسة الأسبوعية» انسجاماً مدهشاً، كانت - وهذه حقيقة- مزيجاً رائعاً من الفكر والأدب والاقتصاد. كانت الثقافة التي ينهل منها بندر السديري هي ما يعرف عن «الأكاديميين» بالثقافة الشاملة، أو ما يعرف عند الأدباء بثقافة (الأخذ من كل فن بطرف» ولكنه على أي حال يهوى ما يقرب به الشعر:
كانت «الغاط» أولى محطات ذلك السفر البعيد، فقد شهدت المدينة مولد الشاعر، وحين بلغ الثامنة من عمره شق طريقه إلى الرياض، وكان برفقة الأمير عبد الرحمن بن أحمد السديري، وكانا قد أمضيا يوماً كاملاً يقطعان (البر) على ذلك اللوري الأحمر. كانت الحياة في تلك الأيام تجري على نسق رتيب، وكانت المسافة التي تفصل «الغاط» عن «المربع» كافية على الأقل لأن تدخل شيئاً من التعب عليهما. كان يوماً شاقاً وطويلاً غادر «الركب» بيت ابن ربيعة في المجمعة، وحين أقبل على «الملتهبة» غشى الأفق ظلمة دامسة. «لا والله إلا غدينا» صاح رجل في أسفل «اللوري». كان الدليل يحار في تلك الأرض الضائعة، وكانت السيارات في ذلك الزمان تتيه في «الملتهبة» وقد لا يردها إلا «الصمان»، أو أن تنتظر إلى أن يسفر النور فتتبين طرقها. وحين دخل الأميران قصر المربع وتوسط بهما الممر الرئيسي نظراً فإذا القصر بين ناظريهما. عندما دخل بندر بن أحمد السديري الحادية عشرة من عمره أدخل مدرسة أنجال الملك عبد العزيز، وكان معه في الفصل الأمير نايف بن عبد العزيز والأمير سلمان بن عبد العزيز والأمير سعد بن خالد بن محمد، وكان مدير المدرسة آنذاك الشيخ عبد الله خياط وكان رجلاً فاضلاً. يقول بندر السديري: كنت مولعاً بالأدب والشعر وكنت أشارك في صحيفة المدرسة، وكان حرصي لا يوصف على حفظ الأشعار العربية، كنت أسمع القصائد الطوال وأتذكر انني كنت أردد ابيات عنترة: إذا كشف الزمان لك القناعا كنت أجد نفسي في الفنون الأدبية، ولا سيما الشعر والقصة، وقد لخصت قصة «وافق شن طبقه» وقد أعجب ذلك التلخيص استاذي. كان ابن مديميغ رجلاً شهماً تعلمت على يديه طرائق الكتابة والقراءة والخط، وجاء من بعده الشيخ السناري الذي كان يخلص للدرس اخلاصاً فذاً.. وعلى الرغم من أن الشيخ في أغلب الأوقات يكون متوتراً إلا أنه كان واضح الاتجاه ناضج التفكير زاد معرفتي بالأدب وبالشعر. كانت حياة دراسية ممتعة جنيت منها الكثير من المعرفة، وتعلمت من أولئك الأفذاذ النابهين ما أعتز به في حياتي أياماً وأياماً. وبعدها سافرنا إلى مكة المكرمة عن طريق البر وأقمنا في قصر السقاف. مرت سنوات على عودة بندر بن أحمد السديري من مكة المكرمة، مرت السنون «سراعاً» كان يتذكر تلك الأيام السابقة عندما كان شاباً في مدرسة أنجال الملك عبد العزيز، مضت سنوات طويلة وكان الشعر أول اكتشاف يبدأ به حياته. كان في أول شبابه عندما قال أول قصيدة. لقد أحب الشعر وأراد أن يصيغ الشعر ذاته، ولكن جاء عليه وقت بعد أن تعدى الثلاثين انشغل فيه عن الشعر، ولكن ما لبث أن عاد إليه، قدر بندر بن أحمد السديري انه شاعر وأنه يسعى إلى النجاح ما وسعه السعي، ولكن كان الشعر أقرب الأشياء إلى قلبه، كان هاجسه بل كان يلح عليه، وكان لا يمر زمن أو ظرف أوموقف إلا قال في ذلك شعراً، وكان كلما وجد فرصة التفت إلى الشعر، ولا تسأل إلى أي مدى كان يمد حبال مشاعره وخصوصاً عندما تكون الأيام لحظات فرح دائم:
قصيد بندر السديري يختلف عن القصيد في أنه ينزع إلى لذيذ الفرح «يا لله نغني».. «طق الطبل» و« افرح ترى العمر فاني».. وليس معنى هذا أنه لا تألم عواطفه أو لا يضيق صدره، وانما هو مثل غيره يقول:
إلى أن يقول:
وإذا كان الشاعر يألف القول اللين، فلأنه يستجيب إلى الخيال السهل الطري الذي ينعش الروح، كانت الصحراء تهبه السعة، وكان الترحال يفضي به إلى الآفاق.
كان بندر بن أحمد السديري مغرماً بالصحراء يضرب في فلواتها كلما أحس بجفاء المدينة،. أمضى شطراً من حياته في فلاة الشمال. «أبغي فيافي نجد والغيث يسقيه» وإذا دققت النظر في أداء الشاعر وألفاظه وخياله ومعانيه وجدت أن أحجار الصحراء، ووهادها وآكامها تسكن القصيدة:
كانت الأيام التي أمضاها الشاعر في الشمال من أمتع الأيام التي مرت، ومن أكثرها صفاء، ومن أكثرها ولها على الشعر:
كان لا يمر يوم إلا وينظم بيتاً أوينشد بيتاً، كان للشعر حضور في تلك الأمكنة، وكان مجلس الأمير الشاعر محمد بن أحمد السديري مفتوحاً إلى آخره، وكانت الوفود الشعرية تفد الى المجلس. في عام 1983م نشر بندر بن أحمد السديري (الألفية). كانت احدى الملاحم التي صاغت الفكر العاطفي بأداء شعبي حزين، اختلط فيها الحب بالحزن، تروي فلسفة خاصة حرص الشاعر على أن يمزجها بالغرام. مرت الأيام سراعاً وجاء على الشاعر زمن انشغل فيه عن القصيد، احياناً يكتب البيت أو البيتين وهو في الطريق، أو المصنع أو الفضاء. وفي أوائل أغسطس من عام 1979م نشر أبياتاً يرثي فيها الأمير الشاعر محمد بن أحمد السديري، كانت ذات حزن شديد تبكي الأمير وتذكر أيامه العظيمة في البناء والجهاد والشجاعة والمروءة والكرم.
لم يكن الأمير بندر بن أحمد السديري إلا انساناً راقياً في انسانيته في تعامله في بساطته في شهامته، ووفائه وعصاميته ونبله وتفكيره وعمقه ووضوحه واخلاصه، ولعلك تتبين تلك الصفات الفردية عندما يقترب منك أو تقترب منه بل إن تلك الصفات النفسية هي دائماً محور احاديثه وكلماته وأفعاله وهي محور علاقاته الاجتماعية وصلاته الانسانية. تقول شخصية مهمة لازمت الأمير بندر السديري أن الأمير بندر ذو حضور اجتماعي وانساني واسع يسعى إلى فعل الخير بصمت مطلق شديد الحرص على الشأن الإنساني يبادر في السؤال عن الأحوال وكان إلى جانب ذلك يظهر اهتماماً شخصياً باصدقائه. كان المحور الانساني تدور حوله كل علاقاته الاجتماعية كان لا يمر يوم إلا ويعود مريضاً أو يزور صديقاً أو يسأل عن حاجة أحد، وكان لايرد دعوة أحد، فالذين رأوا، من على القرب أوالبعد تعامله يحدثونك عن هذا، والذين ألجأتهم إليه حاجة من حاجات الدنيا يؤكد على هذا. كان يعمل بصمت يتحلى بالصدق وكان مدرسة في الكرم والأخلاق والنبل لقد ترك الأمير بندر من الأعمال الجليلة والأخلاق الفاضلة الشيء الكثير رحمه الله رحمة واسعة. |
[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة] |