Wednesday 28th may,2003 11199العدد الاربعاء 27 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

يومان في دمشق يومان في دمشق
خالد المالك

قدر لي أن أزور سوريا في نهاية الأسبوع الماضي، وأن أقضي يومين في عاصمتها، أتأمل تاريخها، وأقضي شيئاً من وقتي مستذكراً ما تختزنه ذاكرتي من محطات صعبة مرَّ بها قطار هذا البلد دون أن يوهن أو يتوقف، مظهراً من خلال رحلته الطويلة بين ألغام كثيرة واجهها في طريقه، قوة إيمان هذا الشعب وتصميمه على تجاوز كل محنة صادفها في ظاهرة وإن رصد بعضنا جانبا من السلبيات فيها، إلا أن هذه السلبيات تكاد لا ترى بالعين المجردة بعد أن طوقتها الإيجابيات الكثيرة والمتسمة بشمولية التغطية لكل ثوابت الأمة.
***
وخلال هذه الزيارة التي تأتي امتدادا لزيارات كثيرة أسعدني الحظ وعلى مدى سنوات طويلة بأن أقوم بها إلى سوريا، التقيت ببعض النخب الفكرية، وأخذتني قدماي إلى سياحة راجلة نحو أحياء دمشق القديمة، حيث يتحدث التاريخ وينطق الحجر عن ملحمة من التحدي الكبير لشعب سوريا الأصيل، وبين حديثي مع شرائح من شخصيات سوريا ومفكريها، وجولاتي على قديم هذه العاصمة السورية، استوقفني أكثر من موضوع، ولفت نظري أكثر من حدث، وأخذتني مبهوراً الكثير من المشاهد المعمارية والإنسانية الى ما شجعني لكتابة هذه الانطباعات السريعة عنها.
***
والحديث عن عاصمة الأمويين بجامعها وأسواقها وتراثها الأصيل، ربما عد من تكرار القول حديثي لها وعنها، لأني قد لا أضيف بهذه السطور شيئا الى ما قاله الأقدمون والمحدثون من المؤرخين والمفكرين والكتَّاب عنها، فالمكتبات تزخر بكنوز من المراجع والمؤلفات والمصادر وجميعها تتحدث بإسهاب عن واحدة من أهم عواصم العالم، كما أن الكتاب المرئي والمسموع - إن صح هذا التعبير - وظّف أحسن توظيف لخدمة واستكمال توجه العلماء نحو توثيق كل ما يخص هذه المدينة من معلومات عبر أطوار التاريخ.
***
ودمشق بجبالها وسهولها وأنهارها وأوديتها تكاد تنطق وبصوت عال ومجلجل عن مخزون تراثي هائل يقول إن التاريخ في جزء كبير من صفحاته مر من هنا أو سجل هنا، وما زالت بقية حلقاته يتعذر كتابتها دون استخدام دمشق في ماضيها وحاضرها ضمن أدوات كتابة هذا التاريخ بنزاهة وأمانة وصدق، وأن إغفال مثل هذه العاصمة المهمة سوف يسقط المعادلة المطلوبة في استحضار مثل هذا التاريخ دون أن يشوب معلوماته شيء من الشك في نزاهته وأمانته وصدقه.
***
ولن أتحدث هنا عن دمشق...
التاريخ...
والأصالة...
والبعد التراثي...
وبما تتميز به من أجواء طبيعية..
إذ إن في المكتبات بسوريا وغير سوريا من الكتب والمراجع ما يغني عن كلام أقوله لكم، وليس مصادفة أن أقول بأن المرحلة التي تمر بها المنطقة، وموقع سوريا في حلقة المستجدات الخطيرة ما هو معلن منها وما هو بانتظار التوقيت المناسب للإعلان عنه، هو الذي ينبغي أن يكتب عنه، وبخاصة حيث يستند الكاتب في ذلك الى معلومات موثقة ويتكئ على مصادر لا يثار حولها الشك أو الريبة بما يصدر منها وعنها من إشارات حول كثير من التطورات التي تمس مستقبل أمتنا في الصميم.
***
لقد سألت من التقيتهم من النخب السورية ممن يعملون داخل الحكومة السورية ومن هم خارجها حول نظرتهم إلى التفجيرات والأعمال الانتحارية التي شهدتها مدينة الرياض وراح ضحيتها الكثير من الأبرياء سعوديين وعربا وأجانب، ولم أجد صوتا واحدا يجيبني بشيء من التردد في تحديد موقفه من عمل مشين كهذا، إذ إن من سألتهم أجمعوا على إدانتهم ورفضهم لهذا الأسلوب في التعبير عن وجهات نظرهم ، مؤكدين لي أن قتل الأبرياء وتهديم المباني لا يمكن القبول به مهما أظهر الفاعلون أو مؤيدوهم من تبريرات.
***
وأخذني هذا الموقف الحازم من تفجيرات الرياض للسؤال عن العلاقة السعودية السورية، ففهمت منهم أن المملكة وسوريا منذ الحركة التصحيحية في سوريا بقيادة الرئيس الراحل المغفور له إن شاء الله حافظ الأسد، وهما يتعاونان ويتعاملان بمنتهى الشفافية دون أن تتعرض هذه العلاقة الممتدة على مدى أكثر من ثلاثين عاما هي فترة حكم الرئيس الأسد للضعف أو التراجع أو الفتور، ناسبين ذلك إلى استيعاب القيادة في البلدين الشقيقين لدورها بأن لا شيء يمكن أن يخدم المصالح الثنائية ويعزز من قوة العرب أكثر مما يخدمه التفاهم المشترك ووحدة الكلمة بين الأشقاء، وهذا ما هو قائم بين المملكة وسوريا.
***
يحدثني إعلاميون التقيتهم أيضاً عن مساحة بدأت تتسع وهامش بدأ يكبر فيما ينشر في الصحافة السورية من آراء ضمن انفتاح كبير يقوده الرئيس بشار الأسد اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً، ويضيف هؤلاء خلال أكثر من لقاء حرصت على أن أستمع إليهم وأسمعهم تجربتنا الصحفية في المملكة، وفرحت لفرح الزملاء بهذا التوجه الجميل نحو تأسيس قواعد جديدة لضمان ما هو أكثر بهاءً وتميزاً لصحافة تناسب مكانة سوريا ودورها الطليعي ضمن منظومة الدول العربية الأكثر عملاً وتعقلاً في التعامل مع قضايا أمتنا العربية المصيرية.
***
وبينما كنت أسجل ما أسمعه في ذاكرتي لتفريغه فيما بعد على الورق لإشراك القارئ بما استمعت إليه، خطر في بالي أن أسأل أكثر من شخص عن الظروف التي تم بها نقل السلطة بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد إلى ابنه بشار الأسد وما أحيطت به من تحليلات وتفسيرات واستنتاجات.
***
كان حافظ الأسد زعيماً تاريخياً ولا شك، ترك بصماته في كثير من الأحداث التي مرت بها المنطقة، وأثر على مدى قيادته للحكم في سوريا في كثير من القضايا في براعة لا تتوفر إلا بمن هو في مواصفات حافظ الأسد، قد يختلف البعض منا مع وجهات نظر حافظ الأسد، لكن يبقى الجميع يحتفظ له بكثير من التقدير والاحترام لثباته على مواقفه وإصراره على عدم التنازل أو التفريط في حق لسوريا أو للعرب إلى أن مات.
***
كانت المهمة صعبة لمن سيقود سوريا بعد حافظ الأسد، وكان الخوف على سوريا وعلى من سيخلف رئيسها مصدرا للتعاطف مع سوريا في ساعات وأيام محنتها، كان الشارع السوري كما قيل لي مصدوماً من رحيل زعيمه التاريخي، خائفاً من أن يستغل هذا الفراغ في إضعاف ما بناه رجلها القوي على مدى سنوات، ومن أن أحداً لن يستطيع أن يملأ هذا الفراغ، أو يحول دون فوضى قد تعم الشارع السوري بمدنه ومحافظاته، وكان الخوف على مستقبل سوريا كبيرا، وقد ساور الكثيرين سوريين وعرباً أن تكون وفاة الرئيس الأسد سبباً قد يدفع بأصحاب الطموح أو الساعين إلى كرسي الحكم للصراع عليه بما يصيب في نهاية الأمر سوريا في مقتل، ويكون ذلك في خدمة مصالح إسرائيل.
***
وبينما كانت دمشق تلملم جراحها وتعود إلى رشدها وتتذكر ما يخبئه القدر لها إن هي فرطت بالزمن المتبقي لاتخاذ القرار التاريخي المهم في هذا الزمن المهم، خرج المواطنون إلى الشوارع في جميع أنحاء سوريا وهذا ما ذكره لي بعض من التقيتهم بيافطات تحمل اسم بشار الأسد مصحوبة بدوي من الهتافات التي تنادي به زعيماً لسوريا خلفا لوالده الرئيس حافظ الأسد، يؤكد هؤلاء أن هذه التظاهرة كانت عفوية، ويفسرون أسبابها بأنها شيء من الوفاء لوالده الذي أعطى سوريا كل شيء ومنحها كل شيء وكان في خدمتها إلى آخر نفس في حياته، لكن من تحدثوا لي لم يغفلوا في الدكتور بشار حافظ الأسد توفر مقومات الزعامة في شخصه وهو الذي تتلمذ على يدي والده وتعلَّم من مدرسته الكثير من قيمها ومستحقاتها ومتطلباتها، مثلما نهل من المدرسة والجامعة والشارع والعلاقات الإنسانية التي يتمتع بها كل هذا التميز الذي منحه ثقة السوريين بانتخابه زعيماً لهم.
***
يروي لي أحدهم عندما سألته عن الجوانب الشخصية في الرئيس بشار الأسد، لها الكثير من الحكايات أستميحه العذر في رواية واحدة منها، فقد ذكر لي أن ابن الرئيس وعندما كان في الجامعة وكان يومها على أبواب التخرّج أراد أحد أساتذته أن يجامله بإعطائه أكثر مما يستحق من درجات في إحدى مواد متطلبات التخرّج، فيما كان بشار الأسد غير راض عن مستواه الرضا الذي يجعل من أستاذه كريما في إعطائه الدرجة الكاملة في هذه المادة، شعر لحظتها بشيء من الألم المصحوب بعدم قدرته على مواجهة أستاذه بموقفه من العلامة الكبرى التي حصل عليها وهو لا يستحقها وذلك احتراماً له، فخطر في باله أن يذهب إلى أستاذ آخر في منزله ليشرح له الوضع ويطالبه باتخاذ الموقف المناسب إما بالتوسط لدى هذا الأستاذ بإعادة امتحانه أو بمنحه الدرجة الفعلية التي يستحقها، وقبل أن يشرح الدكتور بشار الأسد قصته مع أستاذه لأستاذه الآخر، توقَّع هذا الأستاذ أن بشار الأسد قد جاء مسرعاً إلى منزله بسبب عدم حصوله على الدرجة التي تؤهله للنجاح، وما كان يدري أن القصة بمعناها ومحتواها أكثر بكثير مما اعتقد أو خمن.
***
يقول محدثي وهو يروي ذلك لي أن الرئيس بشار شخصية جادة منذ صغره، وأن اختياره رئيساً لسوريا ما كان ليتم لو لم تكن فيه مواصفات الزعامة ومتطلباتها، ويضيف أن من أجمل ما في حافظ الأسد أنه رحل دون أن يكون له دخل أو تدخل في تحديد من سيخلفه، ترك هذا للشعب وللحزب، مع أنه كان يعلم قرب دنو أجله، وكان بإمكانه في حياته أن يرتب الأمور على النحو الذي يرى أنه يخدم سوريا، ولعله رأى في ترك الباب مفتوحاً للجميع لاختيار ما يرونه زعيماً لهم ما يحقق لسوريا الثبات والصمود والاستمرار في تحقيق المزيد من الإنجازات والنجاحات.
***
لم أكن حقيقة أعرف شيئاً كثيراً عن بشار الأسد وهو الطبيب، الذي قيل لي أنه كان مثالاً للانضباط في دوامه ومناوبته، لكن عندما اختاره الناس رئيساً لسوريا ظهر بشار الأسد متمكنا وقادرا على إثبات الذات، وعلى القيام بما هو مطلوب منه على النحو الذي نراه اليوم في سوريا.وأول مرة استمعت إليه كان ذلك في مؤتمر القمة العربي في عمان بالأردن، ألقى كلمته ارتجالاً كانت أشبه بمحاضرة، لغة سليمة، خيال خصب، موقف محدد، سرد تاريخي للصراع مع إسرائيل، حضور ذهني مع تسلسل الأفكار، ويومها زال خوفي على زعامة سوريا، وزاد اطمئناني على مستقبلها، كان للتو قد تسلم بشار قيادة سوريا، إذ لم يكن قد مضى سوى بضعة شهور على انتخابه رئيساً لسوريا، والآن أستطيع أن أقول إن الناس هناك في دمشق يتحدثون عن قيادة منفتحة مستوعبة للمستجدات واثقة من القرارات التي تتخذها حتى وإن كات مصيرية وصعبة باعتبارها نوعاً من التحدي الذي يقوم به الرد والمؤسسة والدولة ولو كان ذلك بإكراه أحيانا.

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved