بسقوط حائط برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانفراد الولايات المتحدة بالزعامة، دخل العالم فعليا الى مرحلة «العولمة»، وبدأت سيطرة الثقافة الغربية والأنماط الاقتصادية والسياسية للغرب المنتصر تكبل العالم من اقصاه الى أقصاه، متخذة من اتفاقيات «منظمة التجارة العالمية» أداة لهذه السيطرة. ورغم أن بعض الإرهاصات التي ترفض العولمة المقننة مازالت تظهر هنا وهناك على شكل تظاهرات أو مسيرات، إلا أنها كثافة واقتصاد، وكذلك كنمط سياسي، تحث الخطى غير عابئة بالاحتجاجات لتكبيل العالم باتفاقياتها التي هي اشبه ما تكون بما يسميه القانونيون: «العقود الإذاعانية» حيث يبقى الهامش المسموح فيه بالاختلاف مع اتفاقيات «منظمة التجارة العالمية» ضيقا جدا، ولك الخيار بالتالي إما الإذعان والتنازل والتوقيع، وإما الرفض والبقاء خارج النمط العالمي الحضاري وربما خارج التاريخ.
الذي يهمني هنا على وجه التحديد هو الجانب الثقافي من العولمة. فالعالم يسير إلى أن يصبح كتلة ثقافية واحدة، أسس ومعالم وقيم هذه الكتلة تم تحديدها مسبقا، ومن منطلقات معرفية لا علاقة لها البتة بمنطلقاتنا ولا قيمنا ولا حتى بمتطلبات وشروط عقيدتنا، وفي الوقت ذاته لابد لنا مضطرين لا مختارين من التعامل مع هذه «العولمة» والدخول في هذه الاتفاقيات كي نبقى أولاً وكي نعيش وننمو ثانياً. من هنا يتضح «المأزق» الذي سنجد أنفسنا مستقبلاً نعيش في اعماقه. فنحن من جهة مضطرون للبقاء داخل هذا العالم، ومن جهة أخرى فإن شروط البقاء هذه تنسف الكثير من مفاهيم إرثنا الثقافي، بل وتتعارض مع بعض مسلماتنا الدينية. لذلك فإنني أرى أن ظاهرة الإرهاب الذي يتمترس بالدين، والتي تجلت في أحداث 11 سبتمبر مروراً بأحداث أفريقياً واليمن وأحداث الرياض وأخيراً تفجيرات الدار البيضاء، هي في وجه من وجهها تعتبر مظهراً وإن كان عنيفاً وساذجاً من مظاهر رفض العولمة، فامريكا في نهاية المطاف هي «العولمة» بالمختصر المفيد! وما يتم رفضه من ممارساتها هو رفض للعولمة بشكل أو بآخر، وتحديدا في جانبها الثقافي. وفي ظني ان أي محاولة من قبل بعض المحللين والمراقبين لتحميل الواقع الداخلي للدول العربية والإسلامية مسؤولية ظاهرة هذه الحوادث الإرهابية، هو ضرب من ضروب التضليل. فخطاب هؤلاء السياسي لا علاقة له بالداخل العربي إلا بما يتعلق بأمريكا والغرب تحديداً، فهو لا يتحدث مثلاً عن الإصلاح، ولا يعنيه إطلاقاً الاقتصاد، ولا يطرح برنامجا، أو حتى رؤية. لما يجب ان يكون عليه الوضع السياسي داخل البيت العربي، بقدر ما يرفع شعار «الجهاد» ضد امريكا ثم يصمت. ولعل بساطة وعمومية هذا الخطاب، وبعده عن القضايا الداخلية، هو السبب الذي جمع المغربي بالسعودي بالمصري بالأردني بالكويتي باليمني كشركاء في هذه الظاهرة، وهو العامل المشترك ايضا بين أحداث 11 سبتمبر في أمريكا وأحداث اليمن والرياض والدار البيضاء مما يؤكد ان ظاهرة رفض «أمريكا» هي رفض لعولمتها الثقافية والسياسية أولاً، وهذا هو أس الخطاب الذي يطرحه المتشددون بشكل عنيف ودموي.
وفي رأيي أننا مقبلون على تفاقم ظاهرة الإرهاب الموجه إلى الغرب في المستقبل المنظور بشكل أوسع وربما بأساليب أخطر، ولاسيما أننا مضطرون شئنا أم أبينا إلى الذهاب بشكل أبعد وأعمق في أجواء وشروط ومضامين اتفاقيات التجارة العالمية، وتنفيذ الكثير من شروطها، الأمر الذي سيضع الكثير من الملح على جراح هؤلاء، مما يجعل ظاهرة الإرهاب الموجه إلى المصالح الأمريكية والغربية مرشحة للاتساع، وهذا ما يجب أن نأخذه في الاعتبار من الآن، كي لا نتفاجأ باتساع وتنامي مثل هذه الظواهر في المستقبل.أعرف أن القضية في منتهى التشابك والتعقيد، تتقاطع فيها المصالح بالثوابت، والاقتصادي بالديني، ومصالحنا في الخارج بمصالحنا في الداخل، حتى يجد المحلل نفسه أمام «معضلة» معقدة متشابكة، يستحيل حلها بدون تنازلات مؤلمة هنا أو هناك. والسؤال: هل سنستطيع إيجاد «نقطة تلاقٍ» في المسافة الشاسعة بين متطلبات «العولمة» من جهة وبين متطلبات ثوابت هويتنا الثقافية من جهة أخرى؟. هذه هي المعادلة التي يجب أن ينصب على حلها جهدُ وأبحاث علمائنا ومفكرينا، هذا إذا أردنا كبح جماح الإرهاب ثقافياً.
|