Thursday 8th may,2003 11179العدد الخميس 7 ,ربيع الاول 1424

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الصحافة والجانب الأخلاقي للحرب على العراق الصحافة والجانب الأخلاقي للحرب على العراق
جون بيلجر

  في الثامن من أبريل حملت الصحف حول العالم تقريراً صحفياً من مراسل وكالة رويترز «المرافق» للجيش الأمريكي، بشأن مقتل صبي عراقي في العاشرة من عمره، فقد قام مجند أمريكي «بإفراغ سلاحه الآلي على الطفل، الذي سقط صريعاً في مقلب قمامة في أرض قاحلة»، ولكن كانت نبرة التقرير متعاطفة للغاية مع المجند، فهو «شاب يبلغ من العمر 21 عاماً ناعم الكلام، الذي على الرغم من أنه لم يندم على فتحه النار، إلا أنه من الواضح أنه كان يفضل أن الذي قتله لم يكن طفلاً صغيراً»، وطبقا لوكالة «رويترز»، فإن الأطفال كانوا «فيما يبدو» يستخدمون على أنهم «مقاتلون» أو ربما بصورة أدق «مستكشفون وجامعو أسلحة».
ويقول الضباط الأمريكيون والجنود إن ذلك يجعل منهم أهدافاً شرعية، والجندي الذي قتل الطفل سمح له قادته بأن يصف ذلك الطفل الذي وقع ضحيته وأشباهه بأنهم «جبناء» في حين لم تكن هناك أية إشارات إلى أن القوات الأمريكية كانت في ذلك الوقت تغزو بلد ذلك الضحية، ثم سمحت رويترز بعد ذلك لقائد فصيلة ذلك الجندي القاتل بالدفاع عنه، قائلاً: «السؤال هو: هل لا تزال فكرة قتل ذلك الطفل مسيطرة على تفكيره وتقلقه؟ الإجابة هي: نعم بالطبع، وهذا يظل هاجساً مسيطراً علي أنا أيضاً في حين أني لم أقم بالضغط على الزناد، ولكني لا أستطيع أن أتخيل كيف لهؤلاء الناس أن يضعوا أطفالهم في ذلك النوع من المواقف». وعندما أحس مراسل رويترز أن القارئ ربما يشعر بلمسة من عدم الارتياح في هذه النقطة،
أضاف مؤكدا: «إن ذلك الجندي مثله مثل الكثير من الجنود الشبان، كان يقول إنه يشعر بالقلق من ارتكاب أول حالة - قتل - في الحرب، ولكنهم الآن بدوا أنهم قد أصبحوا أكثر نضوجاً».
غنائم الحرب
وقد قرأت في «الأوبزرفر» أن «العراق كانت تساوي فقط 20 مليون جنيه إسترليني بالنسبة ل«رويترز»، هذه هي قيمة الأرباح التي يمكن أن تجنيها من تلك الحرب.
وقد تم وصف رويترز في صفحات الأعمال على أنها «شركة نموذج، وعلامتها الشهيرة وسمعتها لا يباريها أحد، وكمؤسسة وظيفتها جمع الأخبار، فهي جديرة بالثناء بسبب دقتها وموضوعيتها».
وأضاف مقال «الأوبزرفر» إن «أكثر مناطق العالم سخونة» فيما يتعلق بالحروب تمثل فقط 7% من عائدات الشركة التي وصلت إلى 6 ،3 مليارات جنيه إسترليني العام السابق، أما بقية ال 93% فتأتي من «أكثر من 400 ألف حاسب آلي موصلة إلى شبكة رويترز في المؤسسات المالية حول العالم».
والوكالة تنتج في سرعة شديدة «معلومات مالية» لمختلف «الأسواق» الشرهة التي تجني أرباحاً طائلة، وتلك الأخبار لا علاقة لها على الإطلاق بالصحافة الحقيقية، بل هي تعد تناقضاً للصحافة الحقيقية، لأن تلك الأخبار لا علاقة لها على الإطلاق بالحياة الإنسانية، هذا هو النظام الصحفي الذي أضفى الشرعية على تلك الحرب غير القانونية والتي لم يستفزنا فيها أحد، في عدوان على دولة محطمة وتقريباً بلا دفاعات، والتي تبلغ نسبة الأطفال من إجمالي عدد سكانها 42%. مثل ذلك الطفل الذي قتل على يد الجندي، الذي وصفته رويترز بأنه «قد بدا الآن أكثر نضوجاً»، بلا شك أن هناك شيئاً فاسداً للغاية عندما تستهلك عقولنا تلك التقارير، ولكن هذه ليست ظاهرة جديدة، فارجعوا إلى الوراء إلى «تغطية» الحرب العالمية الأولى من الصحفيين الذين تم تكريمهم بعد ذلك وأعطوا أوسمة الفرسان تقديرا لخدماتهم في إخفاء حقائق تلك المذابح العظيمة، ولكن الفارق بين الأمس واليوم هو التكنولوجيا التي أدت إلى إنتاج شلال من المعلومات التي تتكرر وتتناثر حول العالم، وقد كانت الولايات المتحدة مصدراً لأكبر عملية غسيل دماغ على نطاق واسع حدثت في تاريخ البلاد.
احتفال مزيف
ففي تلك الحرب التي نطلق عليها تجاوزاً لفظ «حرب» والتي كانت من طرف واحد، كان ينبغي إرسال أخبارها بالأسى والخجل في النشرات العسكرية، ولكنها في المقابل تم تغطيتها وكأننا نغطي سباق سيارات «فورميولا ون»، عندما رأينا فرق أوطاننا تهرع نحو النهاية إلى الأعلام الملونة التي تلوح في ميدان الفردوس في قلب بغداد، عندما تم جذب تمثال الدكتاتور الذي صنعناه ورعيناه على أعيننا إلى الأرض، في احتفالية كانت أقرب إلى الزيف منها إلى الحقيقة كما يمكن للجميع أن يستنتجوا ذلك، فقد كان هناك رجل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أحمد الجلبي، الذي نظم مراسم تلك الاحتفالية السعيدة «للتحرير» أمام كاميرات وسائل الإعلام، التي حضرها «مئات» «أم كانوا عشرات»؟ من الشعب المتهلل، تحرسهم ثلاث دبابات أمريكية قامت بتأمين مدخل المسرح أمام وسائل الإعلام، واستضافت ال«بي بي سي» أحد جنود المارينز، الذي قال لهم في سعادة: «شكراً لكم أيها الرفاق» في لهجة يغمرها الامتنان لتلك «التغطية» من ال«بي بي سي» وشعوره بالامتنان لم يدهشنا كثيراً كما أشار إلى ذلك المحلل الإعلامي ديفيد ميللر.
فقد أظهرت دراسة عن تغطية تلك الحرب في خمس دول أن ال«بي بي سي» قد سمحت بظهور أدنى عدد من المعارضين لتلك الحرب بين كل الشبكات العالمية على الإطلاق، فقد جاءت نسبة ظهور المعارضين في ال«بي بي سي» فقط 2%. وهي نسبة حتى أقل من شبكة «إيه بي سي» الأمريكية التي بلغ ظهور المعارضين فيها لتلك الحرب فقط 7%.
عوائق صحفية
أما الاستثناءات التي تدعو إلى الفخر فهي قليلة للغاية، فبالطبع لا يشك أحد أن الأمر كان صعباً للغاية على الصحفيين في ميدان المعركة لتغطية تلك الحرب، فهناك الغبار وخطوط لا ينبغي لهم أن يتجاوزوها إضافة إلى مخاطر الحرب واعتمادهم الكامل على نظام عسكري لجيش أجنبي بالنسبة للصحفيين البريطانيين مع الجيش الأمريكي، ولا نستطيع تحديد أي من تلك العوائق هي التي ساهمت في حدوث تلك المسرحية الهزلية التي قامت بها «رويترز» ووصفناها سابقاً ولكن من وجهة نظري أنه لا شيء من كل تلك العوائق أدى إلى ذلك، لأن كل ما قدموه كان بمثابة الدعاية الكاملة لقوات التحالف، فالمدافعة والاعتذار بالنيابة عن «جانبنا» جاء منهم تطوعاً وليس إجباراً، ويبدو أن ذلك شيء يجري في الدماء، فإن «الآخرين» ببساطة ليسوا «مثلنا».
ولنتخيل رعب وصدمة تلك الأم التي انكمشت مرتعدة مع أطفالها على قارعة الطريق، في الوقت الذي يفكر فيه «الجندي ذو الحديث الناعم»: هل يقتلهم جميعاً، أم فقط يكتفي بقتل الأب الذي وقع في خطيئة إيقاف سيارته؟ فالأطفال من الواضح أنهم يعملون «مستكشفين» للقوات العسكرية، فمن المؤكد إذن أن الرجل معهم، من يدري؟ أو بالأحرى من يهتم؟ والآن لنتخيل أن هذا يحدث في بريطانيا على أحد الطرق السريعة أثناء حدوث غزو لهذه البلاد.. أم هذه سخافة؟ هل هذا فقط يحدث في دول مثل العراق، والتي يمكن مهاجمتها على حسب رغبتنا وبدون أي مظهر من مظاهر الشرعية أو الأخلاق؟ الدول الضعيفة فقط هي التي تهاجم بالطبع وليس الدول التي بحوزتها أسلحة دمار شامل.
وقد كان فساد الصحافة والتغطيات الإعلامية أشد وضوحا في استوديوهات التعليق ومقار الصحف بعيداً عن الغبار ورائحة الموت، مثلما كتب أندرو راونسلي من «الأوبزرفر» قائلاً: «نعم، لقد مات عدد كبير للغاية في تلك الحرب، فعادة ما تموت أعداد كثيرة في الحروب، فالحرب قذرة وشرسة، ولكن على الأقل كانت هذه الحرب قصيرة بصورة رحيمة للغاية، وكانت أعداد الوفيات أقل بكثير مما توقع الكثيرون حول العالم، نعم، هناك الآلاف قد ماتوا في تلك الحرب، ولكن الملايين قد ماتوا من قبل على يد صدام حسين».
انظروا إلى ذلك المنطق، الذي يصدر في قلب مراكز الصحافة والإعلام وينشر على الناس في كل يوم وليلة، فما نستنتجه بوضوح من ذلك الكلام هو أنه من المناسب أن نقتل آلاف الناس عندما نقوم بغزو بلادهم طالما أن «الملايين» قد ماتوا من قبل على يد ديكتاتورهم! انظروا إلى تلك اللغة المتكاسلة المتثاقلة التي تستهتر بحياة البشر؟ صدام حسين قتل عدداً كبيراً من البشر.. ولكن «ملايين»؟ هل سيصبح منافساً لستالين وهتلر؟ وقد طلب الصحفي ديفيد إدواردز الذي يعمل في مؤسسة «ميديا لينس» توضيحاً من منظمة العفو الدولية حول ذلك، وقد أصدرت منظمة العفو الدولية كتالوجاً يوضح حالات القتل التي ارتكبها صدام حسين، والتي كانت تصل في أقصى حالاتها إلى مئات في العام الواحد، وهو رقم مروِّع بالطبع ولا يحتاج إلى تلك المبالغة التي تشنها الصحافة الموالية للدولة، تلك الدعاية التي تهدف، كما في حالة المعلق البريطاني أندرو راونسلي، إلى حماية توني بلير من الاتهامات الخطيرة التي يعتقد الكثيرون من الناس حول العالم أنه مدان فيها.
فراونسلي لم يذكر على سبيل المثال أي شيء عن مئات الآلاف من العراقيين الذين قتلوا كنتيجة مباشرة لحصار القرون الوسطى الذي فرضته الولايات المتحدة بمساعدة بريطانيا على العراق، وبتحمس خاص من بلير، وقد قضت البروفيسورة جوي جوردان من كونيكتيكيت ثلاثة أعوام في دراسة ذلك الحظر الاقتصادي الذي اعتبرته أنه سلاح من أسلحة الدمار الاجتماعي، وبإلقاء نظرة على عملها الضخم والمفزع أيضاً والذي نشر في مجلة «هاربر» نجدها قد وصفته بأنه «إجراء تم إضفاء صبغة الشرعية عليه أدى إلى حدوث مذابح جماعية» للشعب العراقي.وقد اعتبر المدافعون عن بلير بأن كل هذا الدمار المتوقع لتلك الدولة من دول العالم الثالث على يد القوى العظمى الدولية بأنه «دليل تبرئة» وليس دليل إدانة، وقد كتب الصحفي الإسرائيلي البارز يوري أفنري عن هذا الفساد الثقافي والأخلاقي في الثامن عشر من أبريل الماضي، قائلاً: «دعونا نضع تساؤلاتنا في صورة أكثر إثارة:
ماذا كان سيحدث لو كان أدولف هتلر قد انتصر في الحرب العالمية الثانية، ألم يكن ذلك ليحول حربه إلى حرب عادلة؟ دعونا نفترض أن هتلر هو الذي اتهم أعداءه في محكمة نورمبرج لجرائم الحرب: تشرشل بسبب هجماته الجوية العنيفة على مدينة درزدن الألمانية، والرئيس الأمريكي ترومان لإسقاطه القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي، وستالين لقتله الملايين في معسكرات «الجولاج» الروسية،
هل كان المؤرخون سيعتبرون أن هذه الحرب حرباً عادلة؟ إن الحرب التي تنتهي بانتصار المعتدي هي أسوأ من الحرب التي تنتهي بهزيمته..
إن ذلك أكثر تدميراً من الناحيتين الأخلاقية والجسدية.

(*) «ديلي ميرور» البريطانية

 

 

[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-janirah Corporation. All rights reserved